ليس سخريةً من عقيدة أحد، ليقيني أنّ الساخر من عقائد الآخرين يُعطيهم إجازة السخرية من عقائده، فضلاً أنها من قلّة العقل والذوق والأخلاق، ولعلمي أنْ لا أحد يتملّك كاملَ الحقيقة.. وإنْ ادّعاها، فوراء أيّ عقيدةٍ شعاعٌ من حقّ، بل لو تبيّنتْ عقيدةً باطلة بكلّها.. فمشاعرُ معتنقيها ونواياهم المتكدّسةُ وراءها هي مشاعر ونوايا حقّ، الهزءُ بها ظُلمٌ.

إنّ مفهوم “حلاّل المشاكل” مغروزٌ بكلّ قلب، ويتمثّل بكلّ شعب، كونه مهوى الأفئدة المتورّطة بحاضرها البائس، وأملاً تُطلقه الروحُ المستشرفةُ غدًا. لا أعرف الذين يلهجون بأدعية وتوسّلات “حلاّل المشاكل” لمُشكلنا السياسي والأمني والاقتصادي، لكنّ الأكيد أنّه وصفةٌ -لدى عديدين- لجميع الاستعمالات.. وصالحةٌ للاختبار..

وصفةٌ قد يُنكرها مخالفُها، ويُضخّمها آلِفُها، تتوسّلها طوائفُ مقهورة للفكاك من مصائبها، لأنها تُعبّر عن ملاذاتهم الدينية التكوينية الخفيّة..

“حلاّل المشاكل”: دعواتٌ، وطقوس، وعقائد، ووسائل، يؤطّرها أملُ المستضعفين بأنّ الله قادرٌ على فكّ عقدتها، جرّب بها الكثيرون نجاحاتٍ، وآخرون.. حصدوا إخفاقاتٍ، فظلّت النجاحات تُوقظ إيمان مؤمنيها، والإخفاقات تُوقد تشكيك مُنكريها، لدرجة عدِّها من بقايا إيمان العجائز وخرافاتهم.

تبحث أفرادُ الناس (وأيضاً فئاتُ مجتمعنا المدني والأهلي والرسميّ)، دائماً عن وصفة “لحلّ مشاكلها” المستعصية الطاحنة، قد تستدعي بهاليل الطبوب وفكّ السحر، ومشايخ الأحراز والأوراد، أو خبراء معاهد التنمية السياسية والديمقراطية والاقتصاد، ليقترحوا أعمالا وبرامج وتدابير وحِيَلاً، قد يُجرّبون ألف “خلطة سحرية” وتقنيّة، لكنّهم يتجاوزون الوصفة اليتيمة المفضية بعفوية “لحلّ المشكلة” أو حلحلتها، وصفةً.. يحتفظ بها كلّ شخص، وزعيم، ونظام، مطويّةً في جيبه، لم تُطاوعه نفسُه لفضّها، ولم يسمح للآخرين بتذكيره بها، هي وصفة مراجعة الذات: (حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم).

تغيير العقلية الاصطفائية: الاستئثارية، الفئوية، الطائفية، المذهبية، القبلية، الحزبية، التي تفرض لونًا من النوايا والهواجس والظنون والفكر، وتفرز التعامل بمبدأ القوّة والعنف والفوقيّة والإقصاء تجاه الآخر (الخصم) بالضرورة، وتُنتج بالتّلقاء أشكال القلق والتوتّر والصراع والعنف، وبالتالي “المشاكل” المُحدقة بنا، يا تُرى كم سنجسّر للسلام والوئام وستخفّ أصوات الغارات لو “غيّرنا ما بأنفسنا” تجاه شريكنا الآخر؟!.

الدين القويم (حلاّل المشاكل)، وضع الوصفة منذ الدهر، لكن أين العاملون بوصفاته إنْ كان منتسبوه أوّل الكافرين بها: (الناس إمّا أخ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق)، (أحِبَّ لأخيك ما تحبّ لنفسك)، (مَنْ شاور الرجال أمن مواطن الهلكة)، (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)…والمئات غيرها.

فمثلا “لحلّ المشكلة” العالمية، فإنّ ضخّ المال بالتريليونات، قد يخفّف أعباء “المشكلة” لكنْ لتعود وتنفجر، بينما تغيير العقلية الاحتكارية، وقيَم الجشع، ومنظومة الاحتيال، والعقيدة الاستهلاكية، لأنسنة التجارة والعلاقات، يضمن اقتصادًا راسخاً “بلا مشاكل”.

“المصالحة الوطنية” و”الحوار الوطني” بين المجتمع والدولة.. مبادرات وأمنيات تطرق مسامعنا منذ أمد من شتّى الأطياف، لكن هل سبقه إعلانُ الجميع اعترافاً بكلمة سواء: أنّنا غيّرنا نظرتنا تجاه بعضنا، لنكون جميعاً شركاء الوطن.. نُظراء في الخلق، ليس أحدٌ ربَّ أحد؟! هل “غيّرنا ما بأنفسنا” فحيّدْنا انتماءنا الإيماني، الطائفيّ، الحزبيّ، والقبلي، من قيمة المواطنة وواجباتها وحقوقها السياسية والمدنية وفُرَصها، مُعلنين أنّ الإصلاح الحقيقي والتنموي والأمن والسلام، لن يتأتّى بتأسيس الكيانات والجمعيّات والمرافق السياسية والمهنيّة بهويّات طائفية وفئويّة وأيدلوجية، بل بصبغة وطنية لصالح المواطن بحتاً.

تسابّ رجلان عند النبي(ص) فجعل أحدُهما تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجُه فقال(ص): (إنّي لأعرف كلمةً لو قالها لذهب عنه الذي يجد: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”).. بهذه السهولة، يُبصر (ص) “حلّ المشكلة” في تغيير النفس وفكاكها مِن أن يسوسنا الغضب.. الشهوة.. الأثَرة، التي تجعل شيطانُ النفس يستفزّنا لمعاداة الآخرين والاستعلاء عليهم، فتنبع “المشاكل”.

حين تهدّمت الكعبة جرّاء السيل، قرّرت قبائلُ العرب بناءها، وحين همّوا بوضع الحجر الأسعد أرادت كلّفئة الاستئثار بشرف وضعه، “مشكلةٌ”.. أوشكت أن تؤزّهم لحسمها بالعنف والعضلات و”الشوزن” و”الإطارات المحروقة”، جاء الأمينُ محمّد – ولم يكن نبيّاً بعد ولكن عاقلاً- فحكّموه، فبكلّ سهولةٍ وضع بُردته وجعل ممثّلي القبائل كلّها تتشارك في حمل الحجر عليه لإعادتِه، “فحلّ المشكلة”، المشاركةُ الحقيقيةُ والتنازلُ المتبادَلُ “حلاّل المشاكل”.

واستمرّ ديدنُه(ص) “حلاّلا للمشاكل”، فحين أجلس الغنيّ بصفّ الفقير وآخاهم، وجمع الأسود والأبيض بالمناسك والمهامّ.. وساوى بين فُرَص تمكّنهم، حين أخذ مِن فضل مال الأغنياء وآتاه المعدمين، حين أوجب الإيثار وحرّم الاستئثار، حين استبشع الربا والاحتكار وأكل مال المساكين، حين حذّرهم الفتن الطائفية والتمايزات القوميّة والعنصرية “دعوها فإنّها منتة”، حين حرّم التنازع وسفك الدماء، حين أمر بحفظ الذمام وحسن الجوار.. وبالإيفاء بالعهود وإفشاء السلام، حين قبّح التنابز والتمايز وعدّها رعونةً جاهليّة، حين تألّف القلوب بإغداقها بالمال الفائض، حين صاهر القبائل المختلفة، حين أشرك جميع الطوائف والفئات في أمرهم وجعلها شورى بينهم لا دُولةً بين أغنياء، حين أرسى العدل الاجتماعي والمساواة أمام القانون لأنّه أجلب بالأمن وليس العكس، حين حارب الاستبداد والاستعباد، حين رسّخ قيَم العفو والتسامح وترجمها عفواً عمّن آذى وأجرم واضطهد (اذهبوا فأنتم طُلقاء)، فلأنّه يريد أن يكون “حلاّل مشاكل”، بل مانعًا للمشاكل.. لذلك شهِد بذلك الفيلسوفُ الإنجليزي برناردشو لمحمّد(ص) (يجب أنْ يُسمّى منقذَ البشرية، وأنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في “حلّ مشكلاتنا” بما يؤمّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها).

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة