حلمتُ بمسجدٍ لا تفرّ الملائكة منه

يقول محدّثي: سافرتُ لأحد البلدان وسكنتُ إحدى قراها، مجاوراً مسجدها الوحيد، كان مسجداً قديماً بمنارة واحدة قصيرة وقبّة قديمة ممسوحة بملاط أبيض، فُرشتْ أرضيّته بالحُصر المرقّعة وقطع الزلّ العتيقة، أغرب ما صادفني أنّه مع تباشير الفجر أيقظني أذانُه المتسلّل لغرفتي عبر شبّاكها المفتوح، هممتُ بالذهاب للصلاة فيه، لكنّي حين سمعت المؤذّن يقول “الصلاة خيرٌ من النوم”، قلتُ “مسجدُ سنّة، وحضرةُ جنابي شيعيّ!”، فتقاعستُ ورحتُ في إغفاءة، تخيّلتُ فيها أنّي يمّمتُ شطر المسجد، دخلتُه وتوضّأت، فإذا بي -وأنا خارجٌ من مغتسله- برجلٍ ممسكٍ خرطومَ ماء يدفقه بعنفٍ على رجْليّ، بغية تحويل “مسحي” للقدمين –بحسب الطريقة الشيعية- إلى غسلٍ لهما وفقاً للسنّة، لكنّه رشّني بثيابي من علٍ لأسفل كما تُغسّل السيّارات! فبلعتُها ودخلت باحته، فوضعتُ تربةً حسينيّة كنتُ أدّخرها بجيبي، فإذا برجلٍ بلحية كثّةٍ انهال بمطرقته عليها حيث مهمّته دكدكة التُرَب إلى تُراب! فغصصتُ بها ووقفتُ مكبّراًُ للصلاة وأسبلتُ يدَيْ، فإذا برجلٍ متجهّم يحمل أصفادًا قديمة، جذب يديّ بقسوة وصفّدهما ليجعلني بصلاتي متكتّفاً، سحبتُ يديّ بقوّة صارخاً “لا، كفى”! وانقطعتْ صلاتي، ومعها غفوتي المرعبة بخيالها الجامح، انتهيتُ آنئذ لنتيجة غير منطقية متمتماً: “مالي بمساجد السنّة ومفاجآتها، فلأصلِّ بحجرتي”!

العجيب أنّي مع خروجي ظهراً، سمعتُ المؤذّن يقول “أشهد أنّ عليّاً وليّ الله” ويقول “حيّ على خير العمل”! فقلتُ: ربّما وقع انقلابٌ واحتلّت طائفتي الشيعيّة -بغارةٍ خاطفة- المسجدَ بمنارته القصيرة! (كما تَتحارب ببلداننا العربية طوائفنا على عدد مساجدها ولو كانت ضخمة خالية إلاّ من مؤذّن هندي، بل وكما تغتصب الأقوياء مساجد وكنائس وأراضي وسواحل وأوطان لتستبدل هويّتها وتستتبعها لملكيّتها، وكما يَغير المتطرّفون المذهبيّون على مواقع إلكترونية مخالِفة فيخربونها وينصبون رسائلهم وشعاراتهم كألوية نصر، ويُسمّونها “غزوة” يتباركون بشنّها، حمقى سنّة وشيعة، “مؤمنون إخوة”، يتصاولون بغزو مواقع بعضهم وإفسادها، والمُضيف الإلكتروني لهذه المواقع (السيرفر) أمريكي، يستطيع شطب مواقعهما ومعاركهما بكبسة زرّ)!

يسترسل محدّثي: حين رأيتُ الأذان شيعيا أمنتُ، فدخلتُ المسجد لأصلّي الظهر، لكنّ مفاجأتي تعاظمت لمّا رأيتُ الإمام سنيّا بعمامته الشاميّة، ويصطفّ خلفه السنّة والشيعة، وضمنهم عالم شيعي بعمامته المعروفة، أخذتُ أعرك عينيّ لعلّي أحلم! بعضُهم يصلّي مُسبِلاً وآخر متكتّفاً، بعضٌ بتُربة وآخرون دونها، ونُسَخ “قرآن مجيد” و”قرآن كريم” تملآن المكتبة، صلّى الإمام بصيغة الصلاة “السنّية” الدارجة، واقتدى المأمومون بخشوع، وحين انتهى جلس ليخطب فيهم عن المشاكل الحياتية وسلوك التقوى ومبادئ الأخلاق، بروحانية أخّاذة.

جلس بقربي شابٌّ توسّمتُ فطنته، فسألته عن الحال العجيب، وكيف يصلّي هنا الشيعة خلف السنّة وبسلام؟! متذكّراً أنّه ببلداننا لا يصلّي الشيعيّ حتى خلف شيعيّ مثله يختلف تقليدُه ومنهجُه السياسي وولاؤه الحزبيّ، وإذا أراد سنّي التوحيد بالصلاة خلف شيعيّ انهمرت عليه فتاوى التفرقة والتكفير تحذّره الانخداع بكفر الشيعة وعبادتهم القبور وتقديسهم التُرَب ونفاقهم وأخطريّتهم من اليهود!
أجابني بسرعةٍ كالبداهة: صلاةُ الصبح يؤذّن أوّل الواصلين، الظهر يُؤذّن الشيعيّ، العصر السنّي، المغرب الشيعي، العشاء السنّي، الكلّ ممثَّلٌ هنا ومحترمةٌ عقائدُه وشعائره وثقافتُه، ومع الأيّام واحتكاكنا وتسامحنا ما عادت مسألة الأذان تفرق لدينا!
بدأنا أوّلاً نصلّي يوماً خلف سنّي، ويوماً بإمامة شيعي، لنُذيب الحواجز، ثمّ ما عادت تَفرق ولا مَن يُحصي، بل اليومَ كلُّ واحد يقدّم صاحبه!
اتّفقنا في الخطَب، أن نُعالج هموم الناس ومعاضلهم، منطلقين من مفاهيم القرآن ومناهجه، ونُعلي قيمة سجايا النبيّ(ص) وقدسيّته في القلوب، وتركنا تطريز الخطَب على مناقب أبي بكر وعليّ وعمر والصحابة (رض) وكأنّها خطب تبشيريّة كلٌّ يريد لمذهبه الصدارة بدل صدارة الإسلام المحمّدي، وإعلاء طائفته بدل إعلاء كلمة الله، تركنا كلّ النقاشات والمماحكات المذهبيّة، وطلّقنا للأبد نيّة تحويل الشيعي لسنّي والعكس، بل رأينا بقاءنا على مذاهبنا أصفى لنوايانا وأصدق لإلفتنا وتسامحنا!
بهذا رأينا الأمر واسعاً، وانفتحت لنا مواضيع حقيقية للمعالجة، وآفاق لامذهبيّة للحلول، عيّشتنا تسامحاً لا حدود له إلا رضوان السماء، رأينا بها أنّ هوامش الخلافات والاستعداء بها سخفٌ، وأنّ الله أكبر من أن يُحاسبنا لتفاصيل رُسمت باجتهادات لا دخلَ لها بإيمان قلوبنا وعملنا الصالح، أدركنا أنّ مبادئنا وقضايانا ومشاكلنا واحدة!

بادئ بدء مررنا بمطبّات وعثرات، لكنّنا بصدق نوايانا وبعزائمنا، اكتشفنا الدرس الأكبر المتصدَّر كلّ توصيات الأديان؛ بأنّ التغيير الحقيقي يبدأ منّا، “ادفعْ بالتي هي أحسن”، “إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم”، “احصد الشرّ من صدر أخيك باقتلاعه من صدرك”، فتعاونّا لأنّا تواددنا لا باللسان بل بصدق نوايا الصدور!

يقول محدِّثي: قال لي الشابّ ذلك الكلام وترنّم بعدها بقول الشاعر: “لعمرُك ليس ودُّ اللسانِ بنافعٍ.. إذا لم يكنْ أصلُ المودّةِ في الصدرِ”، ثمّ راح يغمز صدري بإصبعه، مكرّراً: “أصلُ المودّةِ في الصدر”، “..في الصدرِ، أفهمتَ يا بابا”، فسألتُ بدهشتي: “بابا؟!”، أجاب “نعم، يا بابا، بابا، بابا” يقولها ويتلاشى، فاستيقظتُ على ابنتي تندِسُ بأصابعها صدري لتُوقظني صائحة: “بابا، بابا، بابا”!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة