كم حماقة أنْ يسير شخصُ مصاب -تشخب قدماه بالدماء- مسافةً طويلة حتّى إذا بلغ المستشفى قفلَ راجعاً بآلامه وأوجاعه دون دخولِه للعلاج؟! كثيرون يودّون تجديد حاجةٍ مهمّة.. أو تبديل طبْعٍ.. أو إصلاح حال.. فيمشون “بدائهم” أمداً.. ويمدّدونه.. ويُماطلون.. انتظاراً لفرصةٍ مناسبة لتفعيل إرادة التغيير على واقعهم، لكنّها متى سنحت “فإذَا همْ خامِدُون”.. فما تطوّروا و”ما بدّلوا تبديلا”.
شهر رمضان -الذي سيحلّ ضيفنا بعد أسبوع- أحدُ هذه الفُرَص والسوانح العظيمة، لذلك جاء بالأثَر أنّ الشقي من فوّت فرصته وحُرم تبديل حاله فيه.. لقد تمّ مضاعفة هذه الفرصة بدمج محفّزيْن جبّاريْن:
1- “الشهر الكريم” كظرفٍ ذي هيمنة روحية وبرمجة اجتماعية وسلوكية مؤثّرة..
2- “القرآن العظيم” بما يمثّله من ينبوع معرفي وإرشادي كمادّة للتأمّل والانتهال تجاه التغيير.. لذلك ورَد بالذكر: “اللهم ربّ رمضان الذي أنزلت فيه القرآن”.. فكلاهما يعملان معاً.. لكسر العادات المألوفة الجسميّة والنفسيّة والحسّية (بصريّة-سمعيّة-لسانيّة).. وضخّ برنامج آخر تجديدي علاجيّ يكسر النمطيّة الرتيبة السائدة..
بيد أنّ التجديد المأمول المنعكس على حياتنا لن يتأتّى إلاّ بتوظيف قدرات وأعمال “الشهر الكريم” و”القرآن العظيم” الفعليّة.. وليس طقوسها وقشورها التي ليس لنا منها إلاّ الجوع والعطش وقلقلة اللسان.. فتُصبح مجرّد أصباغ تُركَم على طبقات أوساخنا المزمنة. فحين نُفعّل قرآن ربّنا منتهلين من عينه الصافية ماء حياتنا.. وما به نغسل عن مسالكنا الروحية والاجتماعية والسياسية بعضَ أدرانِها وخطاياها، نُصحّح به مفاهيمنا التي بها نطوي حياتنا المشتركة مع أقراننا وإخواننا في الوطن والدين والإنسانية، لنغدو أكثر استقامة أو أقلّ انحرافا.. وأرهف إنسانيةً وأوثق اجتماعاً وتعاطفا وتسامحاً.. رمضان يُشكّل فرصتنا للمراجعة.. لإصلاح “ما أفسده الدهر”. المراجعة النقديّة والمسائلة والمحاسبة.. تسميات لتقنية واحدة.. قيمتها الجوهريّة “الإصلاح ما استطعت”..
إنّ مجرّد التوقّف للتساؤل أو لقبول المساءلة فضيلةٌ.. تخفّف عنّا غرور تقديس الذات.. وتؤهّلنا لسماع القول واتّباع أحسنه.. لنتعالى على قصورنا وأخطائنا وخطايانا.. فمفاهيم “التوبة” و”الرجوع” و”الاستغفار” عديمة القيمة باللسان دون وقفة مراجعة تصحيحية للمسار تنقد الأعمال وتخلّصها من الزيف.. بذلك نتخفّف من وطأة “الأنا” الشخصيّة علينا، تلك التي تدفعنا للأحاديّة وغرور العظمة فنتعصّى عن النقد.. وبالتالي التطوّر.
شخصيّاتنا الفردية.. شأنها كشأن شخصيّاتنا الاعتبارية أكانت جمعيةً، حزبًا، مؤسسة، تيّاراً أم سلطة دولة. النقد الذاتي كالمرآة.. ولن يستطيع أحدُنا الظهور بأبهى صورته دونما مرآة، لذلك كانت “الأخوّة” تناصحاً مستداماً حيث “المؤمنُ مرآةُ أخيه”..
فبالوقفة الرمضانية.. وبالاستنارة بكتاب هديِه القرآني، نقرأ مثلاً: “لا يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” تمدّحاً بالذات الإلهيّة، لكنْ لنستلهم منها أنّ غير الله من ذوات ومؤسّسات وأحزاب.. هي واجبة المسائلة عمّا فعلتْ وتفعل، وأنّ إهمال مساءلتها إشراكُها بالواحد الأحد وخدشٌ بتقديسه وحده.. وإعضالٌ لمسيرتنا عن التطوّر.
ونقرأ: “وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا” تمدّحاً بكمال علمه المبرِّر لاستئثاره بالحاكميّة، يعني أنّ غيره ليس له الاستئثار بالحكم والرأي والإدارة.. فالحياة شرْكة بكلّ مرافقها.. وبهذا نتكامل ونتطوّر كبشر.
ونقرأ: “لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ” تقديساً للذات العليّة، أمّا منعكسها الحركي السياسي والاجتماعي، فأنّ كلّ الزعامات والهياكل والقرارات والخيارات.. قابلةٌ للتبديل للتي هي أحسن.. بمراجعتها ونقدها، أكانت مشروعًا إصلاحيا أم تجربة برلمانية أم تحالفاً أم مجرّد بنات أفكارٍ لزعيم، فما دامت ليست “كلمات لله” فلها تبديل وعليها تعديل.
الفاروق عمر كرّس -تأسّياً بنبيّه(ص)- للنقد السياسي والديني بقوله “لا خيرَ فيكم إنْ لمْ تقولوها.. ولا خيرَ فينا إنْ لمْ نسمعها” هذا النهج القويم أُجهِض، لذلك تخلّفنا على الصُّعد الدينية والسياسية، لأنّ شرط التطوّر وهو النقد الذاتي (التناصح) مفقود، نحن نُحوّل باستبدادنا وجبروتنا “الناصح” “لناقد” أوّلاً، ثمّ “لمعارض” سلميّ ثانيا، ثمّ “عنفيّ” ثالثا، هذا إن لم نستأصله من الوجود أصلاً بالاستتباع والتذويب سواءً بالترغيب أو بالترعيب، فالجاثم على الأمّة نهجٌ أمويّ ثبت بمقولة: (والله لا يأمرُني أحدٌ بتقوى الله.. إلا ضربتُ عنقه)، فانعدمت المرايا العاكسة التي تُبصّرنا قباحة ظلمنا وتكشف بشاعة أخطائنا السياسية والإدارية وهشاشة زعامات أخرى احتمت بتقديس دينيّ مصطنع كثيف مُعتم مبالَغ فيه.
فمن غير المستغرب مثلاً -بمعركة الزعامات لفرض أحاديّتها بعنف الشارع وأفاعيل التهميش- أن تجد فريقاً يُروّج ملصقات لمشيخته الدينية مذيّلة بعبارة “أشهد أن لا قائدَ إلاّ أنت”.. وعبارات أخرى محلّية سبقتها من مثل “الرادّ على الفقيه رادّ على الله”.. كلّ ذلك لمحاولة فرض نمط معيّن على الناقدين والمفكّرين والأطياف المُغايرة والفصيل الآخر.. فنقرُّ على جمودنا المتفشّي بالفكر والسياسة سنينَ الأبد، دونما بصيص لتغيير بتثاقف حركتنا الإنسانية..
“شهر رمضان” هذا الزائر البهيّ.. يقدّم فسحةَ توقّفٍ لفرصةِ تغيير.. حين يكسر العادات.. ويُدخل تجديدات على الحياة غير مألوفة.. ففي حين تقوم مسلسلات التلفزة التجاريّة ودعائيّات البطن والفرج والحلويّات.. بمحاولة تمديد برمجتنا الرتيبة المستولية طوال العام، يَجهد الروحُ الرمضاني لجعْل برامجنا الثقافيّة الرمضانية ومجالس اجتماعاتنا ومنتدياتنا ومقولاتنا.. نقديةً وتصحيحيةً لتقويمنا وتعديل مساراتنا الخاطئة، إذن.. ينبغي فتح ثغرة للروح (والعقل) لينطق لا عن الهوى.. لترميم بنياننا المتهالك تجاه مظاهر المادة وغرائز الحشود وانكماشات الغرور واحتقانات العداوات..
النقد من لوازمِ حتميّةِ أنّ واحدنا –مهما بلغ- ليس (لا “كائن” إلاّ أنت)، وليس (وحدَه لا شريك له).. بل له نظير.. ومُشير.. وشريك.. وشركاء في الفكر والفكرة.. والدين والمذهب.. والبيت والوطن، ولا أحد يملك الحقّ المطلق أن يستأثر بأمرٍ مشترك أو لا يُنقَد ويُنصح ويُساءَل، فإنّ الذي “لا معقّب لحكمه”.. و”لا رادّ لقضائه”.. و”لا مبدّل لكلماته”.. -وكلّها صفات اختصاص- هو القهّار وحده، ومن ادّعاها من الحكّام والأحبار فقد “ربّب” نفسه أو ألّهته حاشيتُه.. رمضان.. مكنستنا القويّة لإزالة العبوديّات والربوبيّات وجعلها إلهًا واحداً.. “نشهد أنْ لا إله إلا هو”.