عندما يرحل إبليس..”البقيّة في رأسنا”

(الإنسانُ كائنٌ غيرُ مُصنَّفٍ بعد، يستطيع أن يكون ألعنَ مِن إبليس، وأن يكون أطهر مِن ملاك، لديه قوّة الإرادة والاختيار على ذي وذاك).

كان وحيدَه الذي تمنّاه، أجهدَ فيه عصارةَ شقاء عمره، ومفضِّلاً الذكور.. آثره بغرفةٍ مستقلّةٍ دون باقي بناته اللاتي حشرهنّ بالغرفة الأخرى، وفّر له “الإنترنيت” السريع و”الدشّ” الفظيع (أو الخليع) بقنواته المفتوحة والمشفّرة، ليدرس.. ويبحث.. ويترفّه.. ويجتهد.. ويُحقِّق طموحَه، لكنّه كان كمن يضع لحمةً بين يدي كلبٍ متضوِّرٍ يسيل لُعابه.. وينصحه بعدم لحْسِها!… الكلبُ -يا بغل- لن يلحسها بل سيأكلها!

أنهى الغلامُ ثانويّته، فصرف الأبُ الساذج “حاجّي شريف” تحويشة العمر لابتعاثه لأمريكا، ليُزيّنه بالشهادة العلميّة التي حُرِمَها هو، فبأوطاننا شهادةُ أمريكا تُعادل شهادة “جعفر الطيّار”.. يطير بها حيثما شاء، وهناك .. وأعوذ بالله مِن هناك.. وجد ابنُ “حاجّي شريف” الفرصة لِلَحْس وتذوّقِ أصناف اللحوم الذي كان يسيل لعابُه (و”الريري”) عليها وهو يتصفّحها لساعات بالإنترنيت بمواقع الخلاعة، و”كان قليلاً من الليل ما يهجع” مُحملقًا فيها.. ومُصغياًً لتأوّهاتها.. بالقنوات الشرّيرة المشفّرة.

بعد أشهر ورد الأبَ خبرُ إصابة ابنِه “الفحل” بالإيدز، ثمّ صعقه نبأُ انتقاله إلى رحمة الله (وربّما لعناته)، احترق قلبُ الوالدِ المفجوع، شخَصَ ببصره نحو السماء بكلّ حرّةِ الملتاعين: “إلهي، خُذْ كلّ “خردة” صالح أعمالي وأبدلها بـ”نوط” دعوةٍ مستجابةٍ واحدةٍ.. واحدةٍ فقط.. أشفي بها صدري”، استجابتْ السماءُ له، فانفجر عندها صدرُ “حاجّي شريف” بأخطر دعاء عرفتْه البشريّة: “يا جبّارَ السماوات والأرض.. خُذ حياة إبليس الذي أغوى فلذة كبدي وأحرَق شبابه وسلبه حياته”، وما استتمّ دعاءه حتّى خرّ إبليسُ -وراء الكواليس- ميتاً، كحيٍّ سكنيٍّ قطعت عنه الوزارةُ الرشيدة تيّار الكهرباء.

انتشر خبرُ زوال “إبليس” بسرعة انتشار الحرائق في أكوام بيوت الفقراء، وعمّت الفرحةُ أناساً كخبر انقشاع “بوش” و”رايس” و”تشيني” عن صدورنا، ارتعب أكثرُ المحامين والمُسوّقين لوهلةٍ جازمين أنّ عقولهم ستتجمّد لرحيل مُلهمِهم العتيد، بعضُ الناس -من الصدمة- دهمَهم الغباءُ والعجز عن توليد أيّة أفكار “جهنّمية” وحيل “شيطانية”، والساسةُ.. ظلّوا كأيتام مرمّلين بلا أب، يعضّون الأنامل حسرةً بمجالسهم على رحيل الأب الفاضل.. والمعلّم الجمبازي.. مرشدهم للدهاليز.. والأكاذيب.. والألاعيب.. والخطب.. والوعود.. الأكروباتية.

ظنّ الغبيّ “حاجّي شريف” أنّ الحال سيتغيّر برحيل “إبليس” عن مسرحنا، وأنّ أمريكا الإمبريالية ستتغيّر وتنكفيء، “نتنياهو” وشلّته الصهيونيّة سيتوبون ويستغفرون لكذبات “الأرض الموعودة” و”الساميّة” و”الشعب المختار” و”محرقة الستّة ملايين”.. ويعودون –تاركين فلسطين لأهلها- أدراجَهم لدولهم بأوروبا وإلى البقاع التي تقاطروا وأجدادُهم منها، ظنّ الغبيّ أنّ الإنترنيتَ الخليع وقنوات الإباحة ستُحجب تلقائيًا بلا تدخّل سلطويّ عنيف أو أهوج، وأنّ عيون الشباب (والشيّاب) ستغضّ بتقواها عن الحملقة، ظنّ حكّامَ الجور سيُصلحون ويردّون المظالم ويطلبون صفح شعوبهم وتبرئة الذمّة، ظنّ الأحمق أنّ الحُسّاد سيكفّون، التُجّار الجشعون سيزهدون ويرحمون، وأنّ الجميع سيتعانق ويتصافح ويشعر بحرارة أخوّة جلسائه وجيرانه من بعد أن نزغ الشيطان اللعين بينهم.. ظنّ ظنوناً كثيرة لو سمعها “إبليسُ” قبلاً لاستعجل و”مات” مِن الضحك عليها.. دونما دعوةٍ حارّة عليه!

برحيل “إبليس”، ودّع الناسُ مقولة “الله يغربل إبليس”، و”خزاك الله يا إبليس”، أوّلاً: باعتبار عدم وجوده، وثانياً.. باعتبار وجوب ذكْر “محاسن” موتانا.. مهما كان “الميّت” مِن السلَف غير الصالح، تركتْ الناس نسبةَ خسيس أفعالهم للفقيد “إبليس”، اكتشف الناسُ آنذاك عمليّاً حاجتهم إلى وجود “إبليس” ليلعنوه على أخطائهم وقراراتهم الشخصيّة، وليبرّروا –بشمّاعته- نسيانهم وغباءهم وخطاياهم وشيطنتهم وجرائمهم، وليكون أيضاً محطّة لعننا النفاقيّ الغامز بقولنا “الله يلعن إبليسك” بدلاً من حقيقة مرادنا “الله يلعن دناءتك”!

هرول فزَعاً بعضُ الملتزمين –كالعادة- بالرسائل المخطوطة باليد، وبالإيميلات، يستفتون “الفقيه” عن مسّوغ بقاء الالتزام “بالاستعاذة” التراثية السائدة “أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم” قبل تلاوة القرآن وبالآداب المستحبّة.. خاصّةً بعد تغيّر الظرف و”نُفوق” إبليس الرجيم، ويستحثّونهم بالتجديد في المسألة عصريّاً، انهمرتْ الفتاوي بإجابات الفقهاء: فأهلُ الظاهر أفتوا بالالتزام بظاهر نصّ الوحي بوجوب “الاستعاذة”: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، بل كلُّهم قال بلزوم ذكْر “الاستعاذة” مع تغيير النيّة لتشير إلى أمريكا مثلاً.. أو أيّ حاكم عربيّ “قائمقام” إبليس.. أو ننوي زعيمَ طائفةٍ أخرى (كُفريّة، بدعيّة، أو ضالّة منافسة)، منهم مَن أفتى ببقائها تلاوةً وسقوطُها حكماً! بعضُهم أفتى بالإتيان بها برجاء المطلوبية تعبّداً، وحين همّ أحدُهم مُخالفاً فأفتى بجواز إسقاط “الاستعاذة” لسقوط موضوعها.. انهالتْ فتاوى الباقين لتحوّل “اللّعن” عليه.. و”الاستعاذة” منه.. بدل “إبليس”.

العجيب، بعد بضعة أيّام، شعرَ الجميعُ بعدم تغيّر شيء، فقد عاد كلُّ وضيعٍ.. وبَطِرٍ.. وضالٍّ.. وطاغيةٍ.. ومنحرفٍ.. وسياسيٍّ.. وتاجرٍ.. ومحامي.. وإعلاميّ.. وشيخٍ.. وجربوعٍ.. لمزاولة خسائسِه، لدرجة شكّ فيها الجميعُ بخبر موت “إبليس”، بل قطعوا بأنها كذبة أبريل حصلت بمايو، حتى “حاجّي شريف” نفسُه أحسّ بأنّ السماء قد غدرتْ به، وأضاع عملَه.. وولدَه.. ودعاءه.. هباءً!

قلّةٌ آمنوا برحيل “إبليس” حقّاً، مُوقنين أنّه لم يكن المصدرَ لشرورهم، بل كان القادح فقط لشرور أنفسنا “وكنّا نحن الوارثين”، من هذه القلّة شاعرُنا العربيّ أحمد مطرْ، كتب عن حقيقة البشرْ:

وجوهُكم أقنعةٌ بالغةُ المرونةْ… طلاؤُها حصافةٌ، وقعرُها رعونةْ صفّق إبليسُ لها مندهشًا.. وباعكم فنونَهْوقال: إنّي راحلٌ، ما عاد لي دورٌ هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونهْ!

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة