إذا كان الإنسانُ حجرَ الزاوية في مجموعتنا الشمسية، فلا ينبغي الظنُّ للحظةٍ أنه -فرداً أو أمّةً- لن يدفع ثمن أخطاء علاقته مع أشيائه ومع الآخر ومع البيئة والكون، وإذا كان غايةُ وجودنا الإنساني هو أن نرتضع الوعي، فإنّ دروس الوعي لمجاميع الناس غالباً ما تأتي قسراً كبرمجةٍ جماعية خاطفةٍ، حالها حال إيّ إيقاظة عنيفة -لنيامٍ غاطّين- بفعل مصدر مزعج ومخيف.. (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)..
أكيداً سندفع ثمن كلّ خياراتنا، وسنرى نتائجها تُعرَض قدّامَ أعيننا، خيارُنا اليوم أن نسلك السبلَ الصحيحة بإرادةٍ وإلا فالسبلُ المعوجّة مهما تزيّنت بالكثرة.. وبالخدَر العام.. وبالمقبولية الشعبية.. وبسطوة السلطان والجمهور وبنشوة القوّة والرفاه الظاهر.. فإنّها ستتبخّر ساعةَ هوْل، ليُعادَ بالإنسان الفرد مُجرجَراً إلى حيث يُصنَع وعيه بالمطارق عبر الطُرُق العسيرة، طُرُق البلايا والمصائب والحرمان.
إنّ المشاكل الضخمة والنزاعات المستعصية اليوم.. السياسية منها والحقوقية، والمذهبية والدينيّة، والشخصية والاجتماعية، والبيئية والاعتقادية، هي موجودةٌ أمامَ الإنسان اليوم كاختبارٍ عسيرٍ وتحدٍّ بارعٍ لاستفزاز وعيِه واستيلاد إنسانيّته.. ليُعالجها بالحكمة والتفاهم والتعاون والعدل واحترام الحقوق، المشاكل كمعاضل لن تظلّ هكذا للأبد، مثلما أنّ الكون ليس يمضي مستقيماً بلا نهاية أيْ دون دورات حسابيّة وكرورات ختاميّة: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)، فهذه الفلسفة العدمية التي تُفلسف لنفسها مِن عبثها وخيالها وفق نظريّة “ما يُهلكُنا إلاّ الدَّهر” ما زالت المعشعشةَ، لذلك تتصدَّر موجةُ الاستهتار والغرور بدلَ الوعي والتقوى..
هيهاتِ، فالأمور مرسومةٌ والمقادير مقدّرةٌ.. ميداناً لاختبار الإنسان وعيَه وبالتالي تحقيقِ تطوّره، ومعظمُ الناس سيخفقون في ارتقاء سلّم الوعي ذاتيّا واختياريّاً، لكنّ مشاكلهم ونزاعاتهم ستُحسَم دفعةً واحدةً عبر الطريق الوعِر المزعج، الطريق الذي يمسح آثار الطغيان.. والأثَرة.. والظلم.. والاستهتار.. وكلّ المماطلات السياسية والتشنّجات المذهبية والخصومات الشخصية والانتفاخات القشريّة، يُطفئها خطَرٌ داهمٌ من كوارث “الطبيعة” التي هي أحدُ أهمّ معلّمي الإنسان “الجهول الظلوم”، وذاك حين تُمارس “الطبيعةُ” بدلَ “الإنسان” دورَها الإصلاحيّ المرعب لفرْض نموذجَ وعيِه الذي كان ينبغي.. فيُوقَظ بالكارثة فزِعاً على وخيم طولِ عبثه المُغرِق.. الكونُ بارتداده على الإنسان، كالأب الذي يمنح أطفاله فرصةً كافية لينضجوا ويُعالجوا خلافاتهم بتفاهمٍ.. ويكفّوا عن حماقاتهم وإفسادهم، وإلاّ عاقبهم نهاية الأمر كدوّابٍ لا يُصلحها إلاّ حزُّ العصا!
تداعتْ دولُنا قبل أيام “لقمّة التغيّر المناخي” لمناقشة قضايا العالَم، والمعطياتُ على الأرض تؤكّد أنّ إنقاذ كوكبنا من الدمار ترتيبُه متأخّرٌ في سلّم أولويّات عقليّة إنساننا الجشع، فالغابات والأشجار تتآكل (وآخرها غابات بورنيو الماليزية)، والمناخ يتبدّل، والتصحّر يزحف، والمياه تشحّ، واتّفاقية “كيوتو” للتغيّر المناخي بالحدّ الإجباري من انبعاث الكربون.. والاستثمار في الطاقة النظيفة.. ظلّت مجرّد تمنّياتٍ لم تتقيّد دولُنا العظمى بالتزاماتها وقراراتها مفضّلةً مصالحها الآنية وجشع آلتها الرأسمالية و”نموّها الاقتصادي” وجيوب مستنفعيها والرفاه المؤقّت، والساسةُ يجادلون أنهم بين خيار الإخلال بالنظام الإيكولوجي أو تدوير عجلة اقتصادهم، بقطع الأخشاب وتجريف الأشجار، وبإرجاء كبح الانبعاث الغازي المشوّه للمناخ.. والمذيب لجليد القطبين.. ما سيُطلق كوارث مهولة.. حين ترجف الأرضُ وتتنهّد محطّمة آثار الترف وصروح الطغيان.. وتُعيد رسْمَ معالمِ خريطتها لتعود بكراً “كأنْ لمْ تغنَ بالأمس”.
اجتثّ الإنسانُ الجشعُ المساحات الخضراءَ ليقيم بدلها منشآته الخرسانية الخرساء، الإنسانُ قديمًا كان يحوّل جزء عالمِه المتصحّر لأخضر، وإنساننا العصري يحوّل الأخضر ليابس، بعد أنْ تضاعف تعدادُ نفوسِه بقرنِه العشرين ثلاث مرّات.. وتضاعف استنزافُه المياهَ ستّ مرات!
فإذا كنا نُري صغارنا كيف كان وطنُنا أخضر قبل 30 سنة، موصّفين أوطاننا ببلد العشرين مليون نخلة، وبلد المليونيّ نخلة، ونُريهم جمال العيون والأنهار والبحيرات التي جفّت وأسنتْ وتصحّرت بعصرهم، فإنّنا بعد ثلاثين سنة سنُري أحفادنا صوَر الحاضر التي ستبدو جنّةً لما سيؤول إليه واقعُهم المأساويّ، حتى أنّ النخلة ستُشاهد بالصور فقط يتعرّفون عليها كما الديناصورات والكائنات المنقرضة، وكلمة “غابة” سنسمعها فقط بالأفلام الوثائقيّة كمشهدٍ غريبٍ لكواكب أخرى غير مأهولة.
لقد توقّع معهدُ السياسة الاستراتيجية بأستراليا ازدياد الكوارث الطبيعية وتكرّر حدوثها بأماكن لم تشهد أيّ كوارث من قبل.. وأنّ التغيرات المناخية ستخلّ بالأمن الوطني والغذائي… وتنبّأ بعجز الحكومات عن التعامل مع النتائج الناجمة عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة لهذه الكوارث.
لقد نسي إنسانُنا الجشع أنّ المساحات الخضراء هي رئة كوكبنا؛ تنقي أجواءه، وتمنحنا الأكسجين، وتزيل العوالق، لكنْ يبدو أنّنا نُسارع بتسميم هذه الرئة.. كمُدخّنٍ أتلف رئته ليموت مختنقًا بشحّة وصول نقيّ الأكسجين، فهل سيقضي الإنسانُ على نفسه وتكبّ به بطنتُه واحتراقُ رئتِه.. ليكون انتقامُ الغابات جرّاء استئصالها (فضلا عن حرائقها المتكرّرة).. بإهلاك أحيائها التي ما كانت لتعيش إلاّ بها، فإذا أزيل الإنسانُ أو اختنق معظمُه بكارثةٍ عالميّة (90 بالمائة منه) تنفسّت الطبيعةُ الصعداء، وعادت الخضرةُ لتنمو “لا مَقْطُوعَة وَلا مَمْنُوعَة” وتنقّتْ الأجواء وتخلّقت جنّةٌ على الأرض يرثها الصالحون الذين “لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً”.. بعد أن ضيّعها طويلاً الإنسانُ الذي “كان ظلومًا جهولا”.