فبراير.. تحيّة وذكريات وآمال

“فبراير”، انشغلت ساحتنا الثقافيّة والاجتماعية فيه بمناسبات عدّة.. استهلّ بـ”يوم المرأة العربية” الذي أقرّه الاتّحاد البرلماني العربي عام 2000 لتكريم النساء العربيّات لجهودهنّ النضالية والتنموية، ومن يشهد أحوال المرأة الفلسطينية –كنموذج- ومرير معاناتها ومقادير صمودها وتضحياتها يُدرك مقدار التبجيل وانحناءات الإجلال اللائقة بها..

ثم الذكرى الثلاثين لقيام الثورة الإيرانية، التي توجّتها بتقدّم علميّ وتقنيّ وفضائيّ أذهل العقلاء وأقلق الأعداء، وحضور نسائي واعٍ ومكثّف بشتّى الميادين السياسية والثقافية والعلمية والجهادية، وباستقلال إراديّ مكّنها من دعم نضال الجبهة العربية المواجهة للعدوان والغطرسة، والتي منحت أمّتنا العربيّة صموداً إعجازياً، وسطّرت انتصارين باهرين (بما يعنيانه من إفشال مخطّطات العدوّ).. بلبنان وفلسطين..

ثمّ ذكرى “الميثاق الوطني البحريني” الذي التمّتْ مستبشرةً حولَه مجاميعُ الوطن وفعالياتُه الأهليّة وقوى معارضته آنذاك، حين بشّر في ديباجته باستهلال مشروع: “انطلاقتها الديموقراطية، لتحقيق آمال الشعب، في دولة عصرية يسودها الأمن والاستقرار والرخاء، وتستكمل فيها مؤسسات الدولة الدستورية التي تضطلع بدورها في تحقيق طموحات القيادة والشعب، في مجتمع تسوده العدالة وسيادة القانون” حيث “يتطلّع الشعب بكل ثقة وعزم إلى مستقبل مشرق، ملؤه الحرية والمساواة، وركيزته العدالة والشورى، وقاعدته المشاركة الشعبية لكل فئات الشعب في مسؤوليات الحكم”، هذه الديباجة لوحدها مادّة لبرنامج عمل، يستلهم مفرداته المفعمة بـ: الديمقراطية، وتحقيق الآمال، وبناء الدولة العصرية، وسيادة الأمن، والاستقرار، والرخاء، والعدالة، والقانون، والمستقبل المشرق، والحرّية، والمساواة، والشورى، والمشاركة الشعبية لكلّ الفئات بحكم الوطن..

وها نحن بعد ثماني سنين نتردّى القهقرى، ونخشى عودة أوضاعنا لمرحلة ما قبل الميثاق، بعد أنْ راوحتْ معظم تلك المفاهيم السامية مكانها كديباجة ورق، وحبيسة آمال..

وأخيراً، ذكرى “عيد الحبّ”/فالنتاين، الذي صرف فيه بعضُ العرب ملايين الدنانير على ورود وهدايا واحتفالات صخب وتعشّق “بالمرأة” وجسمها وألوانها، فبعيداً عن مشاعر البراءة أو العبث وربّما المجون المُصاحِبة، وتنزّهاً عن اجترار جدليّة تحريم الاحتفال به والمهاداة فيه التي تؤسّس لكراهية الآخر بدل الحبّ، أعجبتني دعوةُ النائب البريطاني الشهم “جورج غالاوي” بمناداته جعل “يوم الحبّ” يوم انطلاق “مسيرة حبّ” وتأييد لأطفال غزّة وتنديد بالهمجيّة الصهيونية، وبدل تبذير المال بالهدايا والورود إرساله كتبرّعات ومساعدات طبية لمنكوبيّ غزّة، رجلٌ قفز على سفسطاتنا العبثيّة؛ الفعليّة والكلامية، واستطاع بوحي ضميره أن يُحوّل اليوم العادي (والحرام لدى بعض) إلى يوم واجب، والحبَّ الأناني لترفيه الذات إلى حبّ إنساني للآخرين المستضعفين.

نعود ليوم المرأة (الهادفة)، فقد أوردت الأنباء مؤخّرا أنّ امرأة روسيةً طعنت صديقها لقسوةِ معاملته لقطّتها، هذا الخبر ذكّرني بخبريْن من تراثنا الديني مفادُهما أنّ “رجلاً دخل الجنة لسقيه كلباً”، و”امرأةً دخلت النار لحبسها وتعذيبها هرّة”، حدثان مشهوران يندر ألا تسمع خطيبًا يستحضرهما كشاهد للرفق بالحيوان وحثّ الدين عليه.

البعضُ يتهكّم قائلاً: المرويّتان دسيسة رجال، وإلاّ لماذا لم يأتيا بالعكس هكذا: “امرأة تدخل الجنة لسقي كلب، ورجلٌ يدخل النار لتعذيبه هرّة”؟! فهذا ألْيق، بدلاً من الفكرة الذكورية التي تنسب الفضائل للرجل وأولويّته بالجنة، ومصدريّة الشرور والرذائل للمرأة، وتسبيبها دخول النار وخسران الجنّة منذ البداية وحتّى الختام!

يبدو لي -بمعزلٍ عن منطق مستبدّ شأنه توظيف المرويّات خارج سياقها الحكيم لتسييد الرجل- أنّ الصواب “دخول امرأة النار في هرّة عذّبتها” و”دخول رجل الجنة في كلب سقاه”، لأنّ المرأة بطبعها رحيمةٌ فهي تناقض طبيعتها إن عذّبت هرّة، ولنا في برهانه حكايات، فكثير منّا حينما كنّا شباباً عذّب “السنانير” وطاردهم وصنع بهم المناكر والمقالب والرفسات، وبالعكس كانت فتيات الحيّ يتنهّدن بشفقتهنّ: “مسكين، حرام”!، جميع القصص المحفورة بذاكرتي وأنا صغير والتعذيبات التي نالتها القطط.. أبطالُها ذكورُ أقربائي وأصدقائي، ومعظم حوادث الرحمة بالقطط بطلاتُها نساء، حتى أنّ صديقي يحكي أنّ أمّه كانت تلقي ببقايا الطعام للقطط وتحنو عليهم، بينما أبوه يخرج خلسة ليلاً ليخلط البقايا بسمّ الفئران “كإبادة جماعية” للقطط المزعجة، فلا ينبلج الصباح إلا والضحايا مسجّاةٌ بالأزقّة والخرائب بعد مأدبة “العشاء الأخير” (رضوان الله عليهم!).

الآن، الكلاب.. فمستحيلٌ أن تلفى امرأة “بحرينية” تقترب من صرصور، فكيف بكلب غريبٍ لتسقيه، فهي تخافه بالفطرة، والرجل لأنه قاسي القلب عادة (وليس دائما!)، فمن الممكن أن يُخاطر (ويُفاخر) ليسقي كلبًا لو كان رحيم القلب، أو لعيون خطيبته الجديدة!

فتعذيب امرأةٍ لهرّةٍ.. فعلٌ منكَر يضادّ فطرتها الرحيمة فاستحقّت العقوبة، وسقيا رجلٍ لكلبٍ.. يُعاكس طبيعته الجافّة غالباً فاستحقّ الثواب. لكن السؤال كم امرأة تعذّب قطّة؟ الجواب: امرأةٌ واحدة، كما قالت الرواية، ولكن عشرة آلاف رجلٍ يفعلون.

وكم رجل يرحم كلباً؟ رجلٌ واحد، كما جاء بالرواية، والنساء لا علاقة لهنّ بالكلاب (ولديهم ما يكفيهم ممّن ينبح عليهنّ!) ولأنّهنّ كنّ (وغالباً) حبيسات المنزل، فقُصاراهنّ أن يدخل عليهنّ قطٌّ جائعٌ أو “متسبّب”، لذا نرى في المجتمع الغربي أنّ الإناث يملن لحيازة قطّة، والذكور يملن لحيازة كلب.

ختاماً، بمناسبة يوم المرأة العربيّة: فوزية، منيرة، عصمت، سوسن، لميس، خولة، نجاة، سبيكة، رابحة، ريم، حمدة، عفاف، باسمة، شعلة، لولوة، رملة، سكينة، نادين، حياة، وفاء، ياسمين، سماح، زهرة، فاطمة، سارة، سهيلة.. وغيرها من أسماء لكاتبات تألّقن بسماء صحافتنا البحرينية.. وأخواتهنّ من إعلاميّات، وحقوقيّات، وناشطات، وجمعيّات نسائية هادفة؛ مدنية ودينية، كلّها ترجو إصلاح الحال الوطني (لتحقيق بنود الميثاق الوطني) عمليّاً، وتقويم العوج الإنساني بالحبّ والرحمة (كما فعل غالوي).. كلّها تستحقّ الإجلال لأنها تُثبت أنّ المرأة مخلوقُ رحمة لا تعذيب وعذاب، وأنّها كائن ليس معوجّاً.. خُلق من ضلعنا الأعوج، بل هي دون ما في ذكورنا من اعوجاج.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة