كامل الأوصاف فتنّي..

حرائق في الطرقات، أصوات تفجّر عبوات غاز، شعارات تلطّخ الجدران، احتشادات ومسيرات ومصادمات مع قوّات الشغب، طلقات مطّاطية تتطاير عشوائياً على الأبرياء فتُصيب زميلاً صحفيّا بعينه، اعتقال ومطاردة وتضييق ومحاكمات لمعارضين ونشطاء، تحويل كلّ ملفّ ساخن جدليّ إلى ملفّ أمني، تصعيد للعنف ومزاعم بمحاولات قلب نظام الحكم وتفخيخ سيّارات، غلق منتديات إلكترونية وتضييق الحريات حتى ضجّ المقيمون والوافدون الأجانب، فاحت روائحها على الصحف الأجنبيّة فكتبت أخبار الخليج الإنجليزية على مدار أسبوعين متسائلةً عن مآل الانفتاح في مملكتنا، بعناوين احتجاجية ساخنة لكتّابها وقرّائها مثل: “آن لنا بالاحتجاج”، “أهو العصر الحجري؟”، “أهذه هي الديمقراطية؟”، “الصمت يصمّ الآذان”…الخ.

وضعٌ مأزومٌ.. سببُه يُذكّر بأغنية قديمة تقول “كاملُ الأوصاف فتنّي”، وببيت شعر يمتدح نبيّنا الكريم(ص): “بلغَ العُلى بكماله، كشفَ الدُّجى بجماله، حسنتْ جميعُ خصاله”..

إنّ مفهوم “كامل الأوصاف” يتمثّل بشكلٍ حقيقي فيمن أجهد عمرَه بالتعلّم من إخفاقاته ونوازعه، وبمشوره أصحابِه وبتسديد من خارجِه.. لتخليص نفسه من شوائبها، ويروضها بفعل الخير وبالاستقامة والعدل وبمتطلّبات الصفاء، تبدّى هذا بأشخاص الأنبياء(ص)، كما يتواجد مفهوم “كامل الأوصاف” بشكلٍ وهميٍّ لدى العُشّاق المُستهامين تجاه معشوقهم، حتى قيل “السبال بعين أمّه غزال”، لكنّه يُصبح مفهوماً مرضيًّا حين يظنّ المرء بنفسه “كمال الأوصاف”، وبأنّ البركة تحلّ حيثما حلّ، والحقّ يدور حيثما دار، ذو ذات مقدّسة لا تُساءَل ولا تُصاوَل، تعدّ حتى سلبيّاتها كجزء لا يتجزّأ من شخصيتها تستوجب المنافحة.

هذا الداء الفتنة، المفضي بالانتحال الكامل “لكامل الأوصاف”، يُصيب الأشخاص كما الكيانات، ليصنع نموذجًا استبداديا معصوما ليس عن الخطأ بل عن الصواب الذي آليّتُه الوحيدة التعرّض لشمس النقد/النصيحة/التشاور/التحاور/التسديد.. ليتخلّق بالتجديد صوبَ حالةٍ أخرى أصوب وأنفع.

البعض يصرّ على إمضاء هذا الداء وتمريره بذرائع شتّى، فالمؤسّسة الدينية يُفرَض تقديسها كمؤسّسة “كاملة الأوصاف” دون حقّ لأحدٍ بالنقد أو بالتمييز بين عالِمٍ صالح وطالح، عالم ربّاني و”عالم برياني” (الطبخة الخليجية المعروفة) بحسب تهكّم البعض، علينا بلع وهضم كلّ معمّم وتقديسه والتبرّك بكلّ مُخرجات فمِه أكانت كلمات أو سوائل.

الفكر الإسلامي كمنتج بشري، التفاسير، المرويّات المنسوبة، الاجتهادات الظنونيّة، كثيرون يضعونها في خانة “كامل الأوصاف”، فوق شبهة التشكيك وإعادة النظر للقفز عليها.

الحاكم كشخص وكنظام، حين يتمدّد فيقول: “أنا الدولة”، تُصبح إدارات الدولة كتلةَ ذاتٍ مقدّسة، التعرّض لجزء منها كالتعرّض لكلّها، لذلك تنبري كلّ وزارة بإعداد جهاز خاصّ مُرابط للدفاع عن قدسية أدائها ورجم الأفواه الناقدة يُسمّونه “إدارة العلاقات العامة”، وكلّ ردوده ترنيمتها الضمنيّة: “.. حسنتْ جميعُ خصاليَ، صلّوا عليّ وآليَ”!

إنّ إكحال أعيننا بغرور الاكتمال، ومصادرة حقّ النقد والنقض لسياساتنا.. كدولة وكجهاز حاكم وكزعامات، لدرجة اتّهام كلّ مختلف سياسي باللاوطنية ومعارضٍ بعدم الولاء، هو اختطاف للوطن وتشويه لشخصيّة الدولة وحرمانها من فرص تحسين أدواتها وإدارتها وإفشال لخططها التنموية، إنّه حرمانها الحقيقي من “اكتمال أوصافها”، فأجهزة النظام ليست معصومةً، وأخطاؤها لن تستبصرها دون مؤسّسات مدنية موازية مُعارضة تكشف لها ما تعصّى عليها أن تراه مِن عوراتها، خلق الله عوراتنا خلفَنا ليُساعدنا الآخرون على سترها، النقد والمساءلة والاعتراض -أيا كان نوعها- آليّاتُ كشفٍ وسدادٍ ورشاد.

بجمعيّة التجديد، وإدراكاً منّا أنّ شروط التجديد/التطوير تبدأ أوّلاً بالتشكيك في “عصمة وكمال” بنيتنا الثقافية الجامدة، وثانياً باستلام النقد الحقّ من كلّ مختلِف.. كمرآةٍ إنسانية عاكسة تكشف معايبنا الفكريّة، بذلك نُحقّق مراكمة معرفيّة وتطوّراً بالتواصل والتعارف، فبداهةً أن نجعل أوّل مبادئنا “نتقبّل النقد الحقّ من كلّ أحد”.

نحتاج بالمثل.. لأمان وطننا إلى “نقد كلّ أحد”، إلى حوار وطني صريح بمكاشفات مكشوفة، وإلى مبادرة تنتشلنا من وحلِ هواجس فرقاء لم تتشرّب بمفاهيم التعايش والتعاون والتداول السلمي للسلطات، لكن علينا جميعاً وأوّلاً فصم تماهينا عن “كامل الأوصاف”، والاعتراف بأنّ الفشل والقصور موجودٌ في أدمغتنا وسياساتنا.

لو انفصمت السلطة عن افتتانها بالترنّم بـ”كامل الأوصاف” وتقديس الذات، وأغمدت الهراوة الأمنيّة وأنهتْ أفلام الفبركات والألاعيب السياسية، لو رأت نفسها كشركة تطمح للنجاح والاستقرار، ذات إدارة حيويّة قابلة للتطوير وبالتالي لنقد الذات واستلام تقييم الآخرين ومرئيّاتهم، وأنّ النقد ليس انقلاباً على النظام بل هو إلماحٌ أنّ هناك آمالاً تحطّمت، وجراحاً تحتاج تقطيباً سريعاً، وفشلاً إدارياً يعوزه صدقُ الاعتراف.

الشراكة، التكوّن في مجموعات، التيّارات وبناء التحالفات، المؤسّسات المدنية، مفاهيم الأخوّة، الأسرة الواحدة، كلّها بناءات من شأنها صنع شخصية اعتبارية نابذة للأنانيّة الفرديّة ولتقديس الذات، وأساسها صهر المشاركات المتنوّعة لتتعاون بتعديل المسار.

الانصهار ضمنَ تشكّل “ديمقراطي” سلميّ، يستهلّ بالتنازل عن مركزة الذات “ككاملة الأوصاف”، وبالتالي عدم توظيف والاستئثار والتلويح بالسلطة لضرب كلّ ناشط مخالف للرأي، عمليّة تبدو مؤلمة للأفراد المُدمَجين المعتادين على التفرّد، لأنّها تصنع خدوشاً وتقليصاً وتضييقاً على من كانت يدهم مطلقة ورؤوسهم شامخة، لكنّها الرهان الأقوى على الاستقرار والتلاحم وشيوع الرضا العام، ودونها سنبقى شركاء متشاكسين، أو مجرّد ظاهرة استبدادية تُلغي الإرادات الصغيرة المخالفة وتُطبطب نفسَها بأصباغ الاستقرار.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة