لا لإخصاء الفكر.. وتعقيم اللسان

“لا رقابة إلاّ رقابة الأخلاق.. وإلاّ ضوابط قوانين العدل والحقوق”.. فالذين يُكثرون الخطوط الحمراء الوهميّة على الرأي يسلكون مسلك فرعون بفرض الرأي: “ما أُريكُمْ إلاّ ما أرَى”.. ومسلكَه في الرقابة ونصب المقاصل على الفكرة والاعتقاد: “آمنتُم له قبلَ أنْ آذنَ لكم…فلسوفَ تَعلمون”.

ببرنامج “الاتّجاه المعاكس” عُرِضَ حوارٌ عن تقنيّة الإنترنيت وفضائها ورقابتها، الشخصيةُ الإعلامية المُستضافة روّجت للغرب بكلام طوباويّ وأنّ “التكنولوجيا أزاحت الأيديولوجيا”، وتغافلتْ أنّ “التكنولوجيا” الآن هي مركب/حمار “الأيديولوجيا”، وأنّ حروب الهيمنة التي تُشعلها أمريكا وإسرائيل.. تتّكئ على “أيديولوجيا” توراتية صهيونية أو “أيديولوجيا” العنصريّة والتفوّق، ويكفي تحليل شعاراتها وفلسفتها ومصطلحاتها لترى “الربّ” و”الأيديولوجيا” موظّفها الأكبر، و”التكنولوجيا” خادمها الأصغر..

المفارقة أنّ هذا المُستضافَ هزأ بمُحاوره ساخراً: (أنت لا تجرؤ على إنكار المحرقة، لأنك تعيش بكندا، ولو أنكرتَها لسجنوك)، مُناقضاً نفسَه بأنّ الغرب وطنُ حرّية الفكر والتعبير، وأنّ الإنترنيت -كفضاء لهذه الحرّيات- كسر القمع “الشرقيّ” والرقابات والموانع!

لقد تحوّلت فكرةُ “المحرقة” كأختِها “شعب الله” إلى “أيديولوجيا” اعتقاديّة (Dogma)، تُصادر الفكر وحرية التعبير، هذا “التناقض” الذي نعيشه.. يجعلنا مستعدّين “بأيديولوجيا” يصنعها “دينيّون” أو “ليبراليّون” أن نصطنع قيوداً على الناس تفوق “قيود الله” الفطريّة ومستلزمات الأخلاق والحقوق، ومستعدّين أن نُحارب العالَم لغرائزنا وذواتنا ونكون رأساً بالشرّ، على أن نُناضل للخير والفضيلة والعدل.. ونكون ذيلاً بالخير، مستعدّين لإعطاء حرّية إنكار وجود الله.. والتشكيك بأنبيائه، لكنّا نرفض مناقشة ومساءلة “زعيمنا السياسي” أو “رجلنا الديني” أو عقيدةٍ من صناعتنا “كالمحرقة” لدحض رقمها المليوني.. دون ملاحقة المشكّكين وحبسهم واستئصالهم، هكذا تُصبح “مصنوعاتنا” فوق “الصانِع” عزّ وجلّ، وتُصبح تزويراتُ “التكنولوجيا”.. وتزييفاتُ “الأيديولوجيا”.. فوق ثوابت العلم والقيَم والأخلاق.

“الإخصاء” هو أن تشتري قطّةً، وحين تأخذها للبيت تُفاجأ أنّ البائع قد عقّمها جنسيّاً خلسةً عنك. الإخصاء أن تُفصّل سروالاً طويلاً، وحين تلبسه تجده قصيرًا كسراويل الشرطة الهنديّة أيّام الإنجليز. الإخصاء أن يبعث كاتبٌ ومفكّر بمقالٍ لمنتدى أو لصحيفة فيُقصقصها رقيبٌ طبقًا لمخاوفه و”أيديولوجيّته”. الإخصاء إعاقةٌ فكريّة تنتابنا لكثرة هواجس الخطوط الحمراء التي علينا عبورُها بعدد الرجال التي سنعبرها.. لنيْل إجازةِ عبورٍ آمنٍ لفكرةٍ “مخصيّة” أصلاً عن تخصيب الفكر والعمل.

حرّية التفكير وحرّية التعبير هما أدنى مقوّمات الحياة الكريمة، وأولى عتبات التطوّر والتطوير، فإن تمّ إخصاؤهما فانحطاطُنا مضمونٌ، واجبُنا الانحيازُ “للضوابط الأخلاقية القانونية” بكلّ الميادين.. وليس بتنصيب الموانع والقوامع الأيديولوجية، لا في الفكر والتعبير.. ولا بالإنترنيت والإعلام.. ولا بمسألة التعامل مع الأقليّات. البعض يصطنع سجنًا عقليّاً وهميًّا داخل سجنه الحقيقي فيعيش غلاًّ مزدوجًا، فلا يفكّر أو يحلم إلا بالعبودية.. لكونِّه فرضها على نفسه طوعاً.. وعلى غيره كرهاً.

فمثلاً: صيانةُ التاريخ تستدعي مراجعة ملفّ “المحرقة” ضمن ملفّاته، مثلما تستدعي تنقية تراثنا عن الإسرائيليّات والروايات المكذوبة والتشريعات الزائفة، ومن مستلزمات المراجعة عدمُ تقديسنا الخلفاء الأمويين والعباسيين وسواهم.. لنستطيع القفز على انحطاطنا العقدي والسياسي.. ونسترجع قيَمنا التي ضيّعها عبثُ السلاطين، البعض يريدنا أن نفكّر ونكتب كما لو كنّا مستظلّين بتلك البلاطات.. إبّان سيفُ الحجّاجِ والسفّاحِ كان مشهورًا، بهذا سيطول مسلسلُ تزييف وعي الأمّة والعبثُ بتاريخها، حتى ليبدو أنّا نعيش زمنًا أمويّا وعبّاسيا سرمديّا، فتُسرَد مثلاً مأساة كربلاء –بالطريقة الرقابيّة المخصيّة- هكذا: ((لأنّ تلك الأيّام ينعدم الفاكس والبريد إلكتروني، فقد خرج سيّدنا الحسين شخصيّا بعائلته متلّهفا لمبايعة ابن عمّه سيّدنا يزيد –رضوان الله عليهم- وفي صحراء العراق خرج عليه لصوصٌ ليسرقوا نساءه، فقاتلهم الحسين ببسالة، لكنّه تعثّر عن صهوة فرسه، ليسقط على بقعة فيها “أسياخ” حديد ورماحٌ صدئة وسيوفٌ مرميّة.. فانغرست كلّها دفعةً واحدة في بدنه ومات نزفاً، سيّدنا يزيد كان عاطفيّا جدّا لكونه شاعراً، فحين سمع بمصاب ابن عمّه.. أجهش بالبكاء وأجهش معه أهلُ مجلسه، ولولا أنّ أرضيّة المجلس رخاميّة ومسقلبة وبها ميازيب تصريف.. لغرق المجلس بدموعهم الغزيرة))… هكذا إخصاءُ التاريخ.

الصحافة والإنترنيت والكِتاب.. فضاءات حرّة، هي مرآة الثقافة ومدوّنة الأفكار المُلهمة المُنتجة، هي ليست محلاّ للإخصاء والتعقيم كما أنّها ليست منبراً للتشاتم وبثّ الفتن.. وأيّ أصابع تُحاول خنق الأفكار.. وختان المقالات.. وتزييف التاريخ.. لتُلمّع وتُخصي.. هي أصابع حليفةٌ لأصابع السجّان التي اعتادت العبث بحلقة مفاتيح الزنزانات ومغاليقها..

دُور الصحافة والنشر والفضاء الإلكتروني.. معقلُ الحرّية لا معقل الأفكار، هي قلاعٌ متقدّمة تخطّ للمجتمع خطوات أخلاقيّة تحرّره من براثن العبودية للطغيان، وكانت دائمًا طلائع الوعي والتغيير وليس التخدير، وإنّ نصْب خطوطٍ حمراء وهميّة بحسب اشتهاء كلّ رقيب متأدلج وخائف.. يُثير إشكالية أوطان يُمارس فيها كلّ مسئول عقليّة السجّان من فرط تطبّعنا بعبوديّات كرّسها إرثُنا السياسي والتربوي ورِهابُنا من سجّانٍ أكبر (فصرْنا نُمارس حكاية القِرَدة مع الموز المعلّق بالسقف، نجلد بعضنا رقابيّاً -لمخاوف لاشعوريّة كامنة مبرمجة- دون معرفة العلّة).

ستتفاقم “الخطوط” الحمراء لتستحيل “مساحاتٍ” وليس فقط “خطوطاً”، ولن نستحضر/نبتكر بعدها شيئاً إلا ألفيناه ممنوعاً من الصرف بحسب شريعة “الإصبع” التي لها مرتعٌ في “خصوصيّات” وحقوق الشعب (بحسبِ نزار قبّاني)، الإصبع المستبدّ الذي أخصى القطّة، وقصّر السروال، وقمع الفكرة، وبتر المقال.. فيُقال لهذا الإصبع كما قال نزار أيضاً:

والشعرُ.. ماذا سيبقى من أصالتهِ؟ إذا تولاهُ نصَّـابٌ… ومـدّاحُ؟ وكيفَ نكتبُ والأقفالُ في فمنا؟ وكلُّ ثانيـةٍ يأتيـك سـفّاحُ؟

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة