حين سمع الأبُ الجاهل بالكرة عبارة المعلِّق الرياضي: ضربة جزاء لصالح رونالدو، عقّب: لأوّل مرّة أعرف أنّ رونالدو اسمه الأوّل صالح!!

أطفالاً وكبارًا.. نهوى الكرة، وإيجابياتُها كثيرة؛ تقرّب الشعوب وتُرفّهها، وتستقطب طاقات شبابية ربّما كانت ستصرف في سكك الرذائل أو العنف، لكنها كذلك قد تُفسد الأخلاق وتبثّ الكراهيّة والشغَب (كأحداث فريقي البحرين وتوبلي لكرة اليد مؤخّرا، ومثلها تعرّض مشجّعين بروما للطعن، وإصابة 153 مشجّعاً ببرشلونة…الخ)، وأسوأه أن يتسطّح المُشجِّع لدرجة حلاقته شعر رأسه بهيئة كرة الفيفا، مُبرهناً أنّ دماغه كرةٌ وحسب، أي مملوءٌ هواءً فقط.

يُفاخر أبناؤُنا بلبس فانيلة مكتوبًا وراءها رونالدو، وميسي، وكاكا..الخ، ويُشجّعون ناديًا أوروبيا: يوفينتوس،;مانشستر، ;بايرن،;برشلونة…..، فيحفظون تاريخه وسيرة لاعبيه.. ويُتابعون دقائق أخبارهم، سهّل هذا وسائلُ الاتّصال والإعلام، بل يأخذهم الشغف حتّى لتنزيلهم (بحواسيبِهم) لقطات الأهداف التي أحرزها ناديهم.

تراهم مخطوفي الأبصار والألباب، محترقي الأعصاب، حين يُشاهدون مباريات ناديهم، يقفزون لتهديفه، ويهبّون واضعين أيديهم حسرةً على رؤوسهم لتضييعه، وقد يصرخون ويسبّون الحَكَمَ، ربما يبكون لفاجعة الخسارة.. وينتشون بـكوكائين الفوز، بل وتقوم الخصومات بين أبنائنا كمشجّعين مِن بُعد، وقد يُؤذي أحدُهم الآخر بالتعيير، وقد تصل أحيانًا للعراك.

شخصيةُ ناديهم المعشوق.. ومدرّبِه.. ولاعبيه، صارت جزءًا من شخصيّتهم وعالَمهم، يُدافعون عنها، يفكّرون فيها (حتى حين صلاتهم ودراستهم)، حديثُهم وأحلامُهم عنها، تسرق لبّهم وتستنزف مشاعرهم، يتقمّص أحدُهم لاعبَه النموذجيّ فيحلق حلاقته، ويلبس لبسه، ويمشي مشيته، وربّما وضع وشمًا وقرطاً مثله، يتقمّصه حتى في العصبيّة والاحتجاج والتحايل بالإصابة التي أصبحت فنّا/دجلاً بالملاعب!

والدعاياتُ تُبرمجهم عبرَ هذا النموذج، فإذا صوّرتْ رونالدو وميسي يشربان البيبسي شربها ملاييننا، وإذا ألبستهما أحذية نيكي لبسها ملايينُنا، وإذا سوّقا عطرًا، ساعة، موبايلاً، صابونا.. فستتبعهم ملايين شبّاننا معكم معكم مقلِّدين.

تبدأ كبذرة، وتنتهي كشجرة، يُسرق فيها الولهان، فلا يستطيع إلا متابعة كل المباريات كعبدٍ مُسترَقّ، مسلوب الإرادة، وأخطر شيء أن تُسلب مشاعره وتُزيّف، فيصبح الطفلُ/الشابّ فاسدةً أخلاقُه ومعاملاته وتركيزُه..، وربّما يفشل بدراسته لخسارة فريقه المعشوق بعد أنّ ضُخّمت له مبارياتُه كحروب: موقعة الكلاسيكو، معركة الأنفيلد،;يدكّه بالأهداف، يكتسحه،;يسحقه ..الخ، فإذا خصوماتُه تثور لخلاY͠على تحليل مباراة أو أفضليّة لاعبيْن، فتتحوّل التسليةُ إلى جِدّ الحياة، بل نخاع الحياة.. لدرجة تهميشِه قضايا أمّته، ووطنه، وأسرته، ومستقبله، أو يستحكم جنونُه لينتحر أو يَنحر مشجّعي الفريق المنافس!

بـنيجيريا قتل مشجّعٌ لمانشستر أربعةً من مشجعي برشلونة، وقبل شهر انتحر مشجِّعٌ كيني لخسارة آرسنال، فهل انسحقنا للسيّد الغربي لدرجة التنازل عن هويّاتنا وقضايانا ومستقبلنا؟!

ماذا سيُقدّم فريق آرسنال (وبرشلونة) لعائلة ذاك الغبيّ الذي نحَر حياته (وللأربعة النيجيريّين البرشلونيّين الذين دُهسوا وقُتلوا)، ماذا سينوب أبناءهم وآباءهم وأهليهم المفجوعين؟!

هل سيتبرّع أحدُ لاعبي الآرسنال فابريغاس وآديبايور، أو برشلونة إيتو وتشافي بخمس راتبٍ واحد لإعالة عائلة المنتحرين والمقتولين؟!

يُضيّع الإنسان عمره لعبثيّةٍ.. لم يُوجَد لأجلها، نفخوها في عينِه وظنّها الحمارُ دنياه وأُخراه.. فينبغي إفناء النفس لأجلها.

أعاقلٌ -وطنُه يضجّ من العري والجوع والجهل، من تواتر أقدام المستعمر البريطاني والفرنسي والإيطالي- ينتحر للعبةٍ تُقام بأرض أسياد الأمس، لا ناقة له فيها ولا حمار، وتنتهي بتصافح اللاعبين وتضاحكهم وتبادلهم الأقمصة، وباستلام راتبهم المليونيّ وباحتفالاتهم في المراقص والعربدة بـمناهلها!

كم مخيف حين تُسرق مشاعرنا، ويُشوّه وعينا.. فإذا نحن لسنا نحن؛ نفرح ونغضب.. وربّما نفشل بالدراسة والحياة ونتعوّق عن الإنجاز.. لأنّا نشعر بالخُسران حين خسرَ فريقُنا المعبود المُصوَّر لنا فوق كلّ شيء (عمري المحرّق، حياتي الأهلي، أموت في البارشا)! إنّ علامة وعينا وإرادتنا.. يكمنان ببقاء التسلية تسليةً وحسب، وبقدرتنا على تفويت متابعة مبارياتها بين الفينة والأخرى، فقط لنتأكّد أننا لسنا بمستعبدين….، وإلا فهوى القلب إن لم يتروّض فإنّه سيستذلّنا، وسيمنعنا التركيز الإرادي في أمورٍ مهمّةٍ نعلم أنّ مباراة معشوقنا تحتدمُ إبّانَها.

إنّ هذه المباريات هواية وتسلية، فإن تضخّمت لتنغيص جِدِّنا وشلِّنا عن القيام بشيء لأنّ فريقنا في (جواتيمالا أو موزمبيق) انهزم بالأمس، وبحيث أنستنا ربّنا وأخلاقنا ومهامّنا، فهذا صنمٌ عكفنا عليه دونه تعالى.. نحبّ ونبغض ونقاتل ونقتل عليه، إنّه إسفافٌ بمهمّة العقل الجبّار، وحرفٌ لمشاعر الحبّ والبغض التي متّعنا الله بها.. لتحفّزنا تجاه قضايا الخير والنجدة والتفاعل مع المحتاجين والأقربين والمحرومين..

تصوّر هنديّين يستظلاّن بكرتون بشوارع مومباي، لا يملكان مسكنًا ولا لباسًا وغذاء، لكنّهما يتعاركان بالسكاكين لأنّ هذا يعشق برشلونة وذاك الريال، فهل هناك فيلم كرتوني أقذر من هذا.. أقذر حتى من الكرتون الذي يُظلّهما؟!..

أعرف أشخاصاً لا يستطيعون مشاهدة مباريات فريقهم المفضّل، أعصابُهم لا تحتمل، تولّعوا إلى درجة المَرَض، قلّةُ عقل.. وضعفُ إرادة التحكّم بالنفس، بل تضييعٌ للأهداف.. وسلَسٌ بالمشاعر، بل وصمةٌ طفوليّة.. تجعل الطفل يفزع من قمّة رأسه لأنّ دميته المُولَع بها الْتوى رجلُها وكأنّما الملتوية رجلُه! … تقمّصُ أطفال، لأنّ عالمهم ميكروسكوبي وصغير جدّاً، فهل عُدنا أطفالاً؟ أم أننا –كباراً- نعيش طفولةً حُرِمناها؟ أم أنّ الإعلام العالمي يستهدفُ تقزيمنا لنبقى أطفالاً وأقزاماً؛ نقوم ونقعد.. ونترح ونفرح، بعقول صغيرة، وأحلام صغيرة، ذات كوابيس كبيرة؟..

فمتى ننتبه لكوننا قد أصبحنا مجرّد ترْس في آلة إعلامية ضخمة، تشكّل مشاعرنا وأفكارنا وأذواقنا.. وتتلاعب بطبائعنا.. وتُصوّرنا كما تشاء.

مرّة قرأتُ فتوى مضحكة بحرمة التشبّه بالكفّار، ووجوب مخالفة قواعد لعب كرة القدم، بتغيير شكل الكرة لئلاّ تكون كرويّة، وبأن نركلها ونمسكها باليد أيضا، ونلبس السروال بدل الهاف، وبإزالة العارضة العلويّة للمرمى، ونسي المفتي أنّ هذه بالضبط قواعد كرة القدم الأمريكية

ليس بمنكَر أن نشجّع، وأن نلعب كرة القدم (حتى الأمريكية)، فكلّها رياضاتٌ جميلة، ليس بمنكر أن نركل الكرة ونفرح، خلافًا للفتاوى السخيفة، المنكر أنْ نجعل الكرةَ تركلنا خارج ميدان الحياة.. إمّا منتحرين لأجلها، وإمّا ناحرين كلّ شيء لخاطرها.

إنّ يقظةً -ولو قليلة- يُباركها الله وقد يُوقدها فينا أكثر، فمتى يستيقظ شبابنا ليهتمّوا بتفوّقهم الدراسي ويُحقّقوا اتّزانهم، لصالحهم وصالح أهلهم وأوطانهم بدل تضييع أعمارهم وكفاءاتهم العظيمة الدفينة لصالح رونالدو.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.

عصى آدم..الحقيقة دون قناع
  • معصية آدم، نموذج لمفردة في البناء المعرفي! وحلها سيعيد لإنساننا خارطة نفسه وهويته الضائعة وهدف وجوده
  • معرفة هذه الحقيقة صدمة تعيد الوعي، نعقد بها مصالحة بين التراث والمستقبل لنعيش لحظة الحاضر بيقظة أننا على جسر التحول الإنساني، الذي بدأ في الأرض بالإنسان الهمج ليختتم بالخليفة "الإنسان الإنسان"
مسخ الصورة..سرقة وتحريف تراث الأمة
  • أخذت الحركة الصهيونية على عاتقها غرس دولة لليهود في خاصرة الأمة فزوروا التاريخ العربي ونسبوه لليهود
  • اختلقوا لغة بسرقة إحدى اللهجات القبلية العربية البائدة وأسموها اللغة العبرية
  • أقحم الدين والتاريخ للسيطرة على عقول الناس ونقلت رحلات الأنبياء من مواقعها ليأسسو لاحتلال فلسطين فساهم هذا التزوير في مسخ صورة العربي والمسلم في الثقافة الغربية
مفاتيح القرآن و العقل
  • إذا كان كلام الله واحداً ودقيقاً، كيف حصل له مائة تفسير؟
  • ماذا لو كانت أمتنا تقرأه وتترجمه معكوساً، كلبسها إسلامها مقلوباً؟
  • أصحيح هذا "المجاز" و"التقديرات"،و"النسخ" و"التأويل" و"القراءات"؟
  • هل نحن أحرار في قراءة القرآن وتدبره أم على عقولنا أقفال؟
نداء السراة..اختطاف جغرافيا الأنبياء
  • ماذا يحدث عندما تغيب حضارة عريقة
  • هل تموت الحقيقة أم تتوارى عن الأنظار لتعود .. ولو بعد حين؟
  • هل تقبل بلاد وادي النيل بعودة حضارة القبط الغريبة؟
  • هل تقبل نجد بعودة موطن آباء الخليل إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب؟
الخلق الأول..كما بدأكم تعودون
  • إن البشر الأوائل خرجوا قبل مئات آلاف السنين من "قوالب" الطين كباراً بالغين تماماً كالبعث
  • جاء آدم في مرحلة متأخرة جداً من سلالة أولئك البشر اللاواعي، فتم إعادة تخليقه في الجنة الأرضية ونفخ الروح فيه
  • آدم أبو الناس ليس هو آدم الرسول الذي أعقبه بمئات القرون
الأسطورة..توثيق حضاري
  • الأساطير وقائع أحداث حصلت إما من صنع الإنسان، أو من صنع الطبيعة، أو من صنع السماء
  • لكل اسطورة قيمة ودلالة وجوهراً وتكمن فيها أسرار ومعاني بحاجة إلى إدراك وفهم
  • من الضروري العودة إلى اللغة العربية القديمة بلهجاتها المختلفة لفك رموز الأساطير التي غيب الكثير من مرادها ومغازيها
التوحيد..عقيدة الأمة منذ آدم
  • لو أنا أعدنا قراءة تراثنا بتجرد لأدركنا حقيقة اليد الربانية التي امتدت لإعداة الانسان منذ خطواته الأولى على الأرض بما خطت له من الهدى
  • التوحيد منذ أن بدأ بآدم استمر في بنيه يخبو حيناً ويزهو حيناً آخر، ولكنه لم ينطفئ
بين آدمين..آدم الإنسان وآدم الرسول
  • هل هما (آدمان) أم (آدم) واحد؟
  • من هو (آدم الانسان) الأول الذي عصى؟
  • من (آدم الرسول) الذي لا يعصي؟
  • ماهي شريعة (عشتار) وارتباطها بسقوط آدم الأول حين قارب شجرة المعصية؟
طوفان نوح..بين الحقيقة و الأوهام
  • ما قاله رجال الدين والمفسرون أعاجيب لا يقبلها المنطق ولا العقل السليم في محاولتهم لإثبات عالمية الطوفان
  • استثمر المستنفعون من اليهود هذه القضية ليبتدعوا القضية السامية ويرجعوا نسبهم إلى سام بن نوح (ع)
  • قضية طوفان نوح (ع) لا تكشف التزوير اليهودي فحسب، بل تضع يدها على موضع الداء في ثقافة هذه الأمة