قال: “حمير”، سألتُه: والمنابر التحريضيّة؟! قال: حمير، سألتُه: والمقالات، والإيميلات، والمنتديات الإلكترونيّة المؤذية المتعدّية على الآخرين؟ قال: حمير، وأضاف: وفضائيّات الدعارة المبثوثة تغزو البيوت وتتعدّى على أخلاق وأذواق المشاهدين، وأختها فضائيات السموم الطائفية ونثر الأحقاد، والفتاوى التحريضية التكفيريّة التي تضادّ توحيد الطائفتين الكريمتين بالخُبَر والقطيف وبالبحرين وتحرّم تأليفهم بصلاة السنّي خلف الشيعي والعكس، والتراشقات العدائيّة والتنابزات السبابية، سواءً تفوّه بها فقيهٌ أم سفيه، مفكّرٌ أم بليد، خطيبٌ مدفوعُ الأجر أم مدفوعٌ بغريزته وعصبيّته، ونشرتْها صحيفةٌ سلطويّة أم شعبويّة!
وأضاف: والأذاناتُ المؤذية للآذان في بيئة تعدّدية، وميكروفونات الصخب العالية، ومضخّمات الصوت في السيّارات بل والموبايلات، أكانت بأغاني ماجنة أم بقرآن وبعزيّات، لا تراعي أعصاب الجيران والمارّة والجالسين، ولا تأبه بمريض ونائم، والأبواق تُقرع بالشوارع أكانت لزفّة عرسٍ خاصّ أم لغيظٍ أخصّ، ومواكب العزاء المذهبيّة التي تتقصّد التطواف بأحياء الطوائف الأخرى لتستعرض أمامهم قوّة مهرجاناتها وضجيجها لتزعجهم وتندّد بيزيد وكأنّ يزيدا مختبئٌ في بيوتاتها الضيّقة! والمواكب الموالية لولاية الفقيه التي تُخطّط لمرورها على مآتم لا يقول أصحابها بولاية ذلك الفقيه، فتتوقّف لتردح ولتقرأ سورة المنافقون وتدعو بالموت لمخالفي ولاية الفقيه!
وأردف: والخطب الدينية المستعدية والمستعلية على الآخرين، سواء خرجت ببطن مكّة وبُثّت للملايين، أم ببطن قرية هنا وتبثّ سمومها لحفنة نفر، قال: كلّها “أصوات حمير” بالمنطق القرآنيّ، لا تحترم نفسها ولا الآخر، وليس بقاموسها تعاليمٌ نبويّةٌ عن “حقّ الجار” التي تعني مسالمة جميع المواطنين، فحين حدّد النبيّ(ص) الجار بأنّه سبعون بيتاً يميناً وشمالاً فقد حدّد أقصى رقمٍ تَسَعُه مدُن ذاك الزمان، برقم يُعدّ بلسان العرب رمزاً للكثرة، واليوم كلّ المواطنين جيران، تُحفظ ذمامهم، وأيّ صوت يُنادي بالتعدّي على حقوقهم، فهو “أنكرُ الأصوات”!
منذ أن ابتُليت الأمّة بمنابر ديباجاتُها السبّ والعُدوان، منذ نُزي على منبر نبيّ الرحمة(ص)، بخطباء يسبّون النبيّ(ص) سرّا بمنهجهم الجاهليّ، ويسبّون عليّاً(ع) جهراًً، حتّى صارت الأحقاد عادة، والتطاول والإيذاء عبادة، فالسبّ فرّخ سبّا، وصارت تُسبّ كلّ الخلفاء الراشدين، ثمّ صار يُسبّ جميعُ المسلمين وغير المسلمين، أصبح المنبر لذي الصولة والغلبة، لتحطيم خصومه السياسيين والمذهبيين والشخصيّين، صار المنبر جهازاً مضخّماً بالابتذال “لأصوات الحمير” المشوّهة لمعايير التخاطب الإنسانيّ.
البعض يظنّ بكراهة صوت الناقوس، لروايتهم أنّ النبي(ص) كره استعماله للصلاة، ولم يفقهوا أنّ النبيّ(ص) كره ذلك تسامحاً، لئلاّ يُؤذي النصارى ويتطاول على حقّهم، فاحتفظ بخصوصية ناقوسهم لشعائرهم، (الذي جاء فقه التطاول لاحقاً وأزاح تسامح النبوّة وحرّم النواقيس بديار المسلمين!)، اقترح المسلمون الأذان وسيلةً، فأقرّه النبيّ(ص) واستهلّ بلالٌ به، وكان الأذان مجرّد صوت إعلاميّ خفيض جميل غير مُضخّم بالتقنيّات! هذا التسامح جعل بعدئذٍ خليفة المسلمين عمر يرفض الصلاة بكنيسة القدس، لا لنجاستها! ولعدم صلاحيتها! بل لأنّه يعي أنّ فقه التعدّي على الحقوق سيعود ليسود، فأنِف أن يُحوّل المسلمون بعده كنيسة النصارى المسالمين إلى مسجد للمسلمين متذرّعين بأنّه “مسجدُ عمر”! فصلّى خارجاً فيما يُعرف الآن “بمسجد عمر”.
ولكن لماذا قال الحكيم “حمير”؟ الحقيقة حين سرد القرآن موعظَة الحكيم لقمان لابنه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)، ظنّ المفسرون أنّ المُنكَر نغمة الحمار القبيحة فقالوا: (وخفّض صوتك, إنّ أقبح الأصوات وأبغضها صوت الحمير المعروفة ببلادتها وأصواتها المرتفعة)، ناسين أنّ هذا لا علاقة له “بحكمة” ولا بسياق “موعظة”، فهل على الابن تحسين نبرة صوته والتحدّث بصوت منخفض؟! ربّما هكذا تصوّر البعض، بينما هدَف لقمان لإعداد ابنه لمهمّة رساليّة ودعويّة، مهمّة “صوتيّة” لا تتعالى على الناس بزعيقها، سبقها بنصيحته (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ..، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، فأشنع الأصوات تلك التي تترك المنطق والحجّة وهدوء العقل والآداب لتتوسّل الضجيج والزعيق بغية العلوّ على غيرها، في صيغة تراشقيّة من الجهتين، وهذا هو “صوتُ الحمير”، فالآية لم تقل “صوت الحمار” بصيغة المفرد، كمظهر صوتيّ فيزيائي، بل كظاهرة تمثيلية اجتماعية فيها تختلط أصوات الحمير بالتناهق المتسلسل المتداعي بين أفرادها، حتى تُصبح “جميع الأصوات” المتعالية صوتًا واحدا منكرًا مزعجًا لا يُميَّز فيه مُحقٌّ من مُبطل، وبجملتها تتعدّى على حقوق الناس وتُؤذي مسامعهم، انظر مثالها بعض الجدالات النكراء اللاأخلاقية لحلقات الاتّجاه المعاكس بقناة الجزيرة، مهما حمل أصحابها شهادات أكاديميّة ودينية ومهمّات رساليّة، إلا أنهم خلوا من صوت الإنسان وآدابه ورسالته الأخلاقية!
في (المؤتمر السنوي للأئمة والخطباء والدعاة) الأخير، وبدعوة من وزارة العدل الموقرة، داخلتُ بضرورة كونِ الخطباء واعين لا هدّامين، يتّقون الله في أمّة نبيّهم(ص)، فليس العلم بشيء، ولا حفظ الآيات والأحاديث وفنون الخطابة بمجدية مع شحّة الوعي وقلّة الوطنية وضحالة القيم، وأوّلها احترام الذات والآخر، لا حاجة لنا بأصوات نكراء، تُحرق الناس والوطن وتتجاسر على حقوقهم باسم الدين والشرعية والوطنية ومعزوفاتٍ يشرخها دوامُ النهيق..