تمتاز كتلة الأنبياء (ع) أنهم أناس فاحصون وناقدون لمجتمعاتهم، لا يرضون لأنفسهم التبعية العمياء، والتسليم بما يسلم به الناس، خاصة فيما يعبر عن شخصية الإنسان وعقله واستقلاله، كالعادات والتقاليد والعقائد، فالأنبياء عليهم السلام يلبسون كما يلبس الناس، ويأكلون ما يأكلون، ويمارسون حياتهم، كما الناس، فمثلاً معظم الأنبياء (ع) رعوا الأغنام (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) فهم في الجانب المدني من حياتهم كسائر الناس، لكن على الصعيد الآخر المتصل بالعقل والعقيدة واستقلال الشخصية واستقامتها، فإن لهم في هذا شأناً آخر، إنهم في هذا مخالفون لأقوامهم، دونما رغبة في خلاف، ولا رغبة في استعلاء ولا تكبر، وليس من طريق “خالف تعرف” ولكنه الحق الذي يفرض نفسه عليهم، والذي لا يجدون مناصاً للتهرب منه، إلا في حالة واحدة، وهي أن يكونوا مع أقوامهم وهم يعلمون أنهم على باطل، أو يكونوا مع أقوامهم وهم يعلمون أنهم ظالمون، أو يكونوا مع أقوامهم وهم يعلمون أنهم غارقون في بحارٍ من الجهل، وأكثر الناس ينصرون أحزابهم وطوائفهم وجماعاتهم وتياراتهم، من دون فحص لما يؤيدونهم فيه، بل ربما أيدوهم وهم يعلمون أنهم خاطئون، استرجاعاً للمبدأ الجاهلي “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”، لكن ذلك بالنسبة للأنبياء (ع) من المستحيل، فمبدؤهم الدائم الذي لا يتحولون عنه هو “الحق أحق أن يتبع”، وإذا قبل الأنبياء (ع) من ممارسات أقوامهم شيئاً فإنهم يقبلونه بعد فحصه ونقده، فالإنسان الإنسان هو الذي يتخذ قرار موافقة الآخرين أو عدم موافقتهم بنفسه، أما من لا يتخذ قراراته بنفسه فبالإضافة إلى أنه يخسر المقوم الأساس لشخصيته، فإن الآخرين هم الذين يتكلمون عنه في القضايا المهمة، وهم الذين يوافقون عنه وهم الذين يرفضون عنه، وهذه هي المشكلة الأساس التي سجلها القرآن على أقوام الأنبياء (ع)، والتي عبّرت عنها الآية باختصارٍ شديد (وما وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) فأين الباقون وما هو ردهم؟! لذلك قسَّم القرآن كل قومٍ من أقوام الأنبياء إلى طائفتين طائفة تابعة وأخرى متبوعة، من دون أن يخلو ذلك من ذمِّ الطائفتين، وبالأخص طائفة التابعين الذين انصاعوا لكبرائهم دون أي فحص فذابت شخصياتهم في شخصيات الكبراء لأن قرارهم ليس بأيديهم، والاتباع يمكن أن يكون محموداً إذا كان مسبوقاً بقرار واعٍ اتخذه التابع بنفسه، وعلامة ذلك أن هذا التابع يعلن مخالفته للآخرين إذا تبين خطؤهم، وقد ضمن الدين للإنسان ألا يجبر على الإتباع، قال تعالى (لا إكراه في الدين) وقال سبحانه (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) فلا تكره أحداً على قبول دعوتك ودعه يتخذ القرار بنفسه، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) ففي هذا الجانب ليس الرسول إلا مبلغاً ومبيناً ومذكراً، ويترك للآخرين خيار الاتباع من عدمه ولما رآه علي (ع) يصلي سأله عن ذلك فقال لقد بعثني الله نبياً فهل تتبعني ـ مع أنه كان في بيته يربيه ـ إلا أنه لم يقل له اتبعني إنما عرض عليه أن يتبعه فأجابه علي (ع): دعني أفكر، فدخل الإسلام في اليوم الثاني من البعثة بقراره وقناعته، وهذا نبي الله إبراهيم (ع) يرى في المنام أنه يذبح ولده الحبيب إسماعيل وقد فهم من تلك الرؤيا التي تكررت أنه أمر إلهي وعليه أن ينفذه لكن انظر ماذا قال لإبنه (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ) فالقرار بيدك أنت يا اسماعيل هكذا كانوا يتعاملون مع ابنائهم وأتباعهم، وفي هذا السياق أيضاً أمر الله رسوله أن يشاور أصحابه لأنهم الآن في وضع آخر مخالف لوضعهم القبلي الجاهلي الذي كانوا فيه مجرد تابعين، أما الآن وقد أسلموا فلا يصح أن يبقى الفرد مجرد منفذ لأوامر غيره، فالتشاور يوفر المطلوب من استقلال الشخص ويدعو للتفكير والمساهمة في اتخاذ القرار، ويعلم الناس ألا يسلِّموا لأحد إلا إذا كان معه دليل، فما كان الأنبياء (ع) يكرهون الناس على اتِّباعهم كما يفعل غيرهم، وكانوا يحذرون أقوامهم أن يكونوا تابعين لكبرائهم من دون فحص وتدقيق، حتى قال رسولنا الأكرم (ص) إياك أن تكون أمعة تقول قال الناس فقلت، وما المواجهات التي خاضها الأنبياء مع المترفين إلا من أجل تثبيت حق الاستقلال في اتخاذ القرار لكل إنسان، وقد بذل الأنبياء (ع) في هذا السبيل ما استطاعوا، وقد مارس النبي إبراهيم (ع) النقد والفحص العقائدي أمام قومه من أجل أن يشعل في نفوسهم نزعة هذا الحق، وذلك فيما عرضه القرآن علينا من موقفه الشهير وكأنه يفتش عن إلهٍ يرتضيه، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْه اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) لقد أراد أن يعلمهم أن من حق كل إنسان أن يخالف قومه ويفحص عقيدتهم، ومن ثم يتخذ ما يراه هو فلقد خلقه الله مختاراً مسئولا، فممارسة الفحص والتدقيق مسألة مهمة وعلامة على إنسانيتنا فهل نمارسها استجابة لاستقلالنا المنطقي واقتداء بالأنبياء عليهم السلام؟