بالأمس القريب، وبعد مسيرات وتراشقات، اتّفق أهل الوطن على إدانة التحريض والقذف بمنابر المساجد، لكنْ بالأمس الأقرب وبأحد الجوامعٍ –و”الجُمعة” وخطبتُها، وصلاةُ “جماعتها”، و”جوامعُها”، كلّها ودائع النبيّ الأمين(ص) “لجمع” أمّته ضدّ فرقتها وجاهليّاتها، لكنّا فارقنا أخلاقه(ص) وغاياته؟!- فوجئنا بخطيبٍ يقف شاكيًا تمييزاً تُمارسه وزارة الشئون الإسلامية بشأنِ بناء مساجد طائفته.
والمطالبة ببناء مساجد حقّ دينيّ مهمّ، لكنّ جوهر المساجد المراد تشييدها أهمّ؛ أللتأليف أم للفرقة؟! فإن كانت للضرار فتبًّا لمساجد تُنتهش فيها لحوم المسلمين وأعراضهم، فهي أشدّ حرمةً من الكعبة نفسها!
سرعان ما بيّن “سماحته” نوعية المساجد التي تباكى عليها، فقد انعطف من إدانته “الطائفية” وتفتيتها “للوطنيّة”، ومن مطالبته “بدولة القانون!” ليجترّ معزوفة “السفارة والمهدوية”! وقام يهوّل فسقهم وخطرهم ويدعو لاستئصالهم، بادئاً من:
(“الحجّتية” الذين حاربهم الإمام الخميني.. وانكشفت أضاليلُهم وأكاذيبُهم، واندحروا وتمّ محاصرتهم وإنهاؤهم.. إلى “جند السماء” بالعراق، ومخطّطاتهم الرهيبة بتصفية مرجعيّة النجف واغتيال الفقهاء، فافتضحوا وتمّ تصفيتهم وإفشال مخطّطهم المدمّر، إلى دعوى “السفارة” بالبحرين، تصدّى لها علماء البلد، وصدرت فتاوى الفقهاء ضدّهم، وتمّت محاصرتهم بأوساط المؤمنين، وبعد اختفاء طويل برزوا مجدّدا تحت عناوين جديدة، فأتاحت لهم الأوضاع المتغيّرة أن ينشطوا بدعاوي جديدة تحمل عنوان “التجديد”، وروحُ التجديد عندهم طرحُ الدين بطريقة تخالف فقهاء الأمة الصالحين.. وبقراءة تاريخية للحركات التي ادّعت زورًا وكذبا السفارة فقد انتهت إلى حركات متحرّرة تماماً من الدين وقيَمه، وإلى حركات إلحادية وإباحية”)!
آنفاً تلخيص خطبته الصوتية والنصّية، وتجدونهما على موقع “سماحته”!
إنّ واجب النصيحة لله لا تُسقطه خصومةٌ فكريّة مضخَّمة، ولأنّ الإمام المهدي(ع) الذي تخالفنا منذ ربع قرن على نهجه، مِن مرويِّ دعائِه لربِّه: (ومُنّ على علمائنا بالزهد والنصيحة)، ولأنّهم يحتاجونهما فعلاً، فإنّا نهدي سماحته “النصيحة”، أمّا “الزهد” فتحصيله عليه:
-
تعقيباً على دعوة جلالة الملك الهادفة لمصالحة دينية ووحدة وطنيّة، ننتظر منكم بلورة مشروعكم “لدولة القانون” التي تقصدونها، تعترف بالحقوق الدينية والمدنية للآخرين وبمواطنيّتهم، وتُودِّع منطق الإقصاء والتكفير والعدوان، إرساءً لأخلاق الدين وللتعاون المشيّد للأوطان، ولكم في مقاومة لبنان الوطنيّة الشريفة محتذى بنبذها الخطاب الطائفي الاستعلائي وانفتاحها الوحدوي على كلّ مكوّنات وطنهم؛ سنّةً، دروزًا، ومسيحيّين.
-
بيّنوا معالِم “الدين الصالح” عبر تحقيق مفاهيم “العدل والقسط” وممارسات “أخلاقيّاته”، وليس بتركيز المذهبيّات الضيّقة، وطهّروا “الجوامع” ومنابرها عن استباحةِ المواطنين المختلفين معكم، والطعن بأعراضهم، فمساجد كهذه بشرع نبيّنا(ص) هدُّها أهون مِن هتك حرمات مسلمين، لأنّها تُفسد “السلم الأهليّ” الذي دعانا الإسلام للدخول فيه كافّة.
-
إن لم تُطاوعكم “عزّتكم” بالاعتذار عن فتاوى التكفير وجرائم إيذاء السنين، فأسقطوها بصمت، لأنّها فاسدة المقدّمة والنتيجة؛ فمقدّمتها قام على الإفك الآثم للتغرير بالفقهاء العظام، ونتيجتها كما شهدتُم وجرّبتم، وحّشت أخلاق المُضلّلين بها، وقسّت قلوبهم بالعدوان والقطيعة، وشغلتهم وضيّعتهم عقديْن بالترّهات، يحتاج سماحتكم جرأة الاعتراف والمراجعة الذاتيّة، لإصلاحٍ حقيقي.
-
“التجديد” يحفظ جوهر الدين، و”التجميد” يحفظ قشره فحسب، عليكم بنهج “التجديد” إن كنتم تحبّون الإسلام والأمة، كلّ الأنبياء مجدّدون، وإنّ ألمع العلماء منذ النائيني والأفغاني وعبده والبنّا.. إلى الإمام الخميني والصدر والشيرازي والغزالي وفضل الله، هم مجدّدون خالفوا واقعهم الجامد فأوذوا ونجّسهم القاعدون! فبدل تكراركم تمثيل خطّ أهل البيت(ع) ورموزه الجهاديّة.. خطابةً وزيّاً، قدّموا مشاريعكم الحضاريّة التي تُرضي الله ورسوله وآله(ع) والناس فعلاً!
-
لغة تهويل أخطار خصومكم الفكريّين، تُخدِّر وعي جمهوركم، والتحريضُ بِلُغة البطش وبأماني استئصالهم يمجّه الدين الحنيف، هو لن يُعلي شأنكم ولن يُرهب المتوكّلين، ننصح سماحتكم ترك الربط المضلّل بين المدعوّين “حجّتيّين” و”جند سماء” وبين “التجديد” الذي ننصحكم بقراءة نهجه وأخلاقيّاته وأفكاره بدل استخبال تابعيكم بمخطّطاتٍ وهميّة لاغتيال الفقهاء (واغتيالكم!)، فهذه تُهمٌ جنائيّة تُعاقب عليها “دولةُ القانون” التي تنشدونها! وفريةٌ “عقابُ الجبّار” عليها أعظم.
-
رمْيُ المختلف الفكريّ “بالإلحاد” و”الإباحية” تُريكم الجهل والانحدار الذي فُصِّلتْ على ضوئه الفتاوى القديمة الآثمة، إنّها رعونةٌ أخلاقيّة، وتُهمةٌ سيشمئزّ “سماحتُكم” منها لو أُلصقت بأهلكم وبالمصطفّين خلفكم، أمّا قذفُ مَن تعرفهم بتقواهم وبنقائهم وأخلاقهم، وبأطروحاتهم الإصلاحيّة، وبصبر السنين، وباحتشامِ مئات نسائهم العفيفات (وحاشاهنّ إباحيّات!)، وبصبرهنّ إزاء مرضى القلوب العاملين بتحريضكم، وبفتاوى التحرّش والإيذاء، وبمستحبّات التمتّع ونكاح الثلاث والأربع، فهذه جريمةٌ قانونية وإنسانيّة وسماوية، ندعها للحاكمِ سبحانه.
-
مأزقُ الدين، وتشرذم الأمّة بتكالب أعدائنا عليها، ووحدة وطننا، ومصلحة مواطنينا، قضايا تُملي تعاوناً وجهوداً جبّارة ننصحكم بعدم الإلهاء عنها، والبدء بمعالجات جذرية للاستحقاقات الخطيرة المكلّفين بها شرعاً.
-
تيّار “التجديد” طرح منهجاً، وبحوثاً عميقة ومقولات، ومشاريع وحدويّة، ووطأ مساحات ومحافل دولية وإقليمية لقضايا الإنسان والعدل والنماء وإفشاء القيَم، كانت فرصتكم لإسداء نقدكم البنّاء للتعارف والحوار المثمر، بشرط ترككم الوصائيّة والتكفير، وحجر التفكير.
-
حوار التعارف والتعاون أكبر أخلاقيّات الدين، حتى مع المشرك، والقطيعةُ حتى معه تُنتج التمزّق والفشل، واستغلال المنابر للسبّ والسبّ المضاد، تُغرق الأوطان وتَخدم العدوان، نرجو أن يكون لدى سماحتكم مهمّات تشغلكم.. تُثابون عليها، بدل هدر طاقتكم وطاقاتنا بالتطاحن الفارغ، هداكم الله لمراضيه، ولما ينفع العباد والبلاد.