كتب أبرز صحفيّي الاقتصاد البريطانيّين متكهّناً أن تتمخّض الأزمة المالية حروباً عالمية كبرى: “إنّ ما نراه حالياً من تفسخ للنظام المالي العالمي، قد يؤدي إلى انتهاء عصر وول ستريت وسوق لندن المالية قبيل انبثاق نظام جديد بعيد عن الجشع، يرتكز على الثقة المتبادلة بين المتعاملين بعيداً عن ثقافة الذئاب”.
إنّ احتياجنا “للثقة المتبادلة” و”ثقافة التبادل” والاحترام، بدل “ثقافة الذئاب” والاستعباد، ليس مجاله سوق المال فقط بل كلّ علاقاتنا الإنسانية ومحطّات التقائنا وتشاركنا، من سياسة ودين وفكر واقتصاد وبيئات اجتماع.
في الآثار القديمة أنّ سلطاناً طاغيا أنذره عرّافُه بهلاكه الليلة، فاتّخذ عدّته وحصّن نفسه، أباد أعداءه، وأبعد أقاربه، وغلّق عليه أبواب قصره، وأقام سيّافه الأثير بجانبه يحميه، وجهل أنّ سيّافه موتورٌ بثأر قديم بلغ به الليلة مداه وتوفّرتْ فرصتُه، فلقي حتفَه في تدبيره!
قال عليّ(ع): “تذلّ الأمور للمقادير، حتى يكون الحتفُ في التدبير”!
إنّ آفة الأشياء وداءها كثيراً ما تكون منها وفيها، لكنّ الغرور بالظاهر المزخرف يطمس استبصار هذه الآفات، فأحياناً قد تتغوّل إمبراطوريّات ودولٌ وأنظمة لكنّها تحمل بأحشائها بذور فنائها وانهيارها، سواء كفسادٍ قيَميّ كامن بثقافتها، أو بذور انحلال تعتمل بنسيجها المجتمعي، أو انحراف بنظامها السلطوي، حتى يُؤتى على شامخ بنيانها من قواعده، فيخرّ عليها سقفها وتتقوّض، بعد تآكل طويل نخر فيها بخفاء.
مع إفلاس وانهيار المعسكر الاشتراكي قبل عقدين، كتب “فوكوياما” عن “نهاية التاريخ وخاتم البشر”، معلناً الانتصار “الأبديّ” للرأسمالية وقيمها كأيديولوجيا كونيّة أبدية مبشَّرٍ بها، قبال كافة الأيديولوجيات القائمة بما فيها الإسلام وغيره، لكنّ غيره كتب مضاداً عن “نهاية العولمة” و”نهاية الليبرالية الجديدة” لاستبصاره أنّ الرأسمالية المادّية تحوي فيروسات تدميرها الذاتي.
العالَم اليوم متشابك بعولماتٍ شتّى، تسوقه ليتأثّر بعضُه بالبعض، لكنّ هذا التأثّر ليس خياراً تكافلياً بل مفروضٌ بآليّة مادّية اصطناعيّة، إنّ حالة “التداعي” التي امتدحها الدين بين كيانات المجتمع الإنساني العالميّ تقوم على التعاطف والتراحم لتُنتج تكافلاً باعثُه الشعور بالأخوّة والشراكة الحقيقيّة، بينما حالة التداعي/التهاوي التي يعيشها العالَم اليوم منشؤها اتّساع منظومة التدليس والاحتيال وتوغّلها وتشبّث أذرعها في السياسات والاقتصادات لتشبيك الجميع بمصير بائس واحدٍ بمسمّى “مجتمع دوليّ”، حيث الفقراء ودافعو الضرائب يظلّون دافعي الثمن في السرّاء والضرّاء
قد تُسقط طفلاً من جُرف “فتتداعى” أمُّه وتهوي وراءه لهيجان “تعاطفها”، لكنّ ارتماءنا اليوم أشبه بأحكام إعدامٍ جماعيّة قسريّة، يُوثّق محكوموها بحبلٍ واحد (مُعَولَم)، ويُساقون إلى شفا جرف، فيُرمى بأضخمهم ليتداعى الجمعُ المربوط به هوياً وراءه، أحبّوه أم كرهوه، يتساقطون كقِطَع الدومينو!
ما يُثير الغضب، هو إحساسنا الغبيّ بأنّ الوضع السابق دائمٌ وغيرُ قابل للتغيير، أزمات كهذه تفتح أعيننا أنّ الاستسلام موتٌ، والارتهانُ انتحار، والاغترار بلادة، وأنّ الضَّخم صار ضخماً وعالياً، رُبّما لتكون هدّتُه نهايتَه.
لو كنّا بعصر الديناصور، لما ظننّا لوهلة أنّ هذا المخلوق المهول، المفترس لكائناتٍ أصغر منه، المجتاح بقاع الأرض سيطرةً ووحشيّته وزئيراً، سينقرض ويتحلّل ويُصبح أحاديث الجامعات ومادّة للمتاحف.
لو كنّا بعصر الديناصور، لما ظننّا لوهلة أنّ هذا المخلوق المهول، المفترس لكائناتٍ أصغر منه، المجتاح بقاع الأرض سيطرةً ووحشيّته وزئيراً، سينقرض ويتحلّل ويُصبح أحاديث الجامعات ومادّة للمتاحف. كم تفاجأنا لموت إنسان قويّ قائلين: كان هنا بالأمس يضحك، فيا لَسبحان الدائم! من ظنّ بأنّ أكبر برجين بأمريكا يمكن أن يندكّا بالتراب؟! من احتمل أنّ نظام صدّام المهيب بحرسَه الرهيب يمكن مسّه، ناهيك عن إسقاطه؟! من تخيّل أنّ الاتّحاد السوفييتي المنيع حينها قابلٌ للتفتّت السريع المتهاوي؟ من يتنبّأ بأنّ إسرائيل المدجّجة قد تُخلخلها وتُهينُها ثلّةٌ مناضلة؟! من يُفكّر أنّ أمريكا بالإمكان انكفاؤها وزوالها كقّوة قطبيّة؟! من يقول أنّ الأفكار الليبرالية الرأسمالية غير راسخة وآئلة للانهيار؟! في لحظةٍ: لا أحد يقول ويظنّ ويتخيّل، وبعد هنيهات: كلّ أحد سيفعل، وكان ينبغي أن نعيش الوعي قبل فجأة التغيير، لتكون لنا يدٌ في صناعته للإسهام ببدائل أفضل، وإلاّ فسنعيش –مضطرين- بدائلَ مفروضة ومكرورة مشحونةً بآفاتها.
وصفتْ نماذجَ هذه الزوالات مرويّاتُنا الدينيّة بتساقط “نظام الخرز”، ولُغتنا العصرية تسمّيه تساقط “قِطَع الدومينو”، حيث تتداعى منظومات الاستتباع/الاستعباد بالتأثير المتتالي، جرّاء فسادها الداخليّ واهتراء نظامها: (نظامٌ كنظامِ الخرز يتبع بعضُه بعضًا، فيكون البأسُ مِن كلّ وجه)، (وكرجلٍ كانت في يده فخّارة وهو يمشي، إذ سقطت من يده وهو ساهٍ عنها فانكسرت، فقال حين سقطت: هاه! -شبهَ الفَزِع- فذهابُ ملكِهم هكذا، أغفلَ ما كانوا عن ذهابه)!
إنّ عبارة “ما أظنّ أن تبيد هذه أبداً” تختصر أحاسيس كلّ المستنفعين وأمانيهم الكارهة للتغيير، لأنّ حلمهم يرقد ويركد هنا، وتختزل إحساس الخانعين كذلك واليائسين والمنبطحين والجامدين، بينما آخرون يحلمون بعيداً بالكرامة وبالعدل وبالحرّيات، ويقلّبون أوجههم في السماء علّها تنفتّح على أملٍ يقيهم القنوط، عقيدة غرور اللحظة هذه حكمت “فوكوياما” حين قال بنهاية التاريخ وجمودِه، واتّخذ النموذج الأمريكي مثالاً لليبرالية والرأسمالية والديمقراطية، ثمّ جاءت ضربة أمريكا من أمريكا نفسها بالأزمة الماليّة لتثبت أنّ “أمريكا ليست ربّاً” أبديّاً، وصار الأكثر يُجاهرون بضرورة الرقابة على السوق، وبتحكّم الدولة لحماية ودائع الناس ولجم الجشع ولكفالة الضرورات والحاجات، قبال وحشيةِ مادّيةِ السوق الحرّة، التي تسوق الناس غرائزيا بالهلع بين “غريزتي الطمع والجزع”، الأولى ترفع الأسعار وهميًّا لتسرق عرق الناس وودائعهم بالشراء، والثانية تُلجئهم ليبيعوا أسهمهم ومدّخراتهم بأبخس الأثمان خوفاً.
بداية الثمانينات، وإبّان حقبة أمن الدولة، أمسك ضابط التحقيق بجواز سفري ومزّق منه فيزا دراستي، صرختُ محتجّاً، كلّفني الاحتجاج غالياً، عقّب بعدها شامتاً: “وهل تظنّ أنّك ستخرج من السجن لتحتاج جوازك، ستتعفّن هنا”، طبعاً لم أتعفّن، كُنت أستحمّ خلسةً يوميّا! وخرجت بعد أربع سنين وتغيّر كلّ شيء، لكن تلك اللحظة المتغوِّلة، لحظة “ما أظنّ أن تبيد هذه أبدًا”، لحظة الظنّ بأبديّة عفن السجن وأبديّة الغطرسة وأبديّة الأوضاع البائسة، يبرز “روح التديّن” كارتباط بالمطلق غير المرتهن بمضائق الزمان وكلحتِه، يُسلّحنا بالأمل المشبوب، ويُقدّم مفاهيم “رَوْح الله” و”أيّام الله” للإنسان المضغوط، لئلاّ يجتاحه اليأس ويوقعه فريسة الهَوْل، وليهيئ مناسمه لاستقبال نسائم التغيير وتوقّع هبوبها، فهي الأمل بالإمكان، والمَخرج من ضغطة اللحظة ومن الفزع الأكبر بتخيّل ديمومتها، التغيير يبدأ بالمناسم قبل النسائم.