منذ قرّرت السماء إخراج مخلوقها الإنسان من مغاوره وكهوفه حتى وضعت له بيتاً قدسيّاً يربطه بمكوّنه الرّوحي (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) تُبثّ فيه علوم حضارته وتهذيباته، ويتخلّى بدخوله عن نوازع عنفه، ليصير مُحرِمًا متطهّرًا وكائنَ سلام.
المساجد ملاجئُ أمن، فإذا وقعت نازلةٌ ستلفى الناس يحتمون بها لشعورها الوجداني بأنّها محميّات طبيعية في كنف الإله، لذلك فانتهاك أمنها غاية الهمجية، تنفي الأمان من الأرض (جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً)، ولأنّ الحُجّاج قديماً يسيرون للبيت أشهراً حرّم سبحانه تلك الأشهر، بل وجعل السائر إليها يلبس الأبيض شعاراً، وحرّم عليه الخصومات والاعتداءات، فلا يقتل صيداً ولا يجادل، ولعن من يصدّ وافديه، وأوصى بمعاقبتهم.
بناه آدمُ الرسول(ع) ثمّ رفع قواعده إبراهيمُ(ع) لإقامة السلم الاجتماعي العالمي، ولفضّ النزاعات بين القبائل حين مواسمهم، وللتّخلي عن خطاياهم وخصوماتهم، (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)، وأمر الخالقُ إبراهيم (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، من حينها صار للبشرية محكمةُ عدلٍ عالمية، ومجلسُ أمنٍ، وواحةُ سلام، ثمّ تكاثرت نماذجه لتتحول لدور عبادة في بقاع المعمورة، محلاّت مقدّسة محرّمة لا يُنتهك سلامُها، لا سبابَ داخلَها ولا ضجيج، بل تبتّلات روحيّة ومشاعر أخويّة تُعبِّد المخلوق ليصطبع برحمانية خالقه، مهما تسمّت “صوامع” “مساجد” “كنائس” “أديرة” “مآتم”، فكم قرأنا في التاريخ أنّ الناس لجأت إليها حين الحروب إيماناً بعدم جرأة أحد على انتهاك أمانها، ومن هنا نشأت فكرة “الصليب الأحمر” و”الهلال الأحمر”، حيث مارست المعابد والمساجد مهمّاتها الإنسانية السلمية بإسعاف المرضى، وإيواء الجرحى، والتكفّل بالموتى.
بموازاة هذا الخطّ الرحمانيّ كان يمشي خطٌّ همجيّ، يتحيّن التسلّل في أحقاب الغفلة، حوّل به سلاطين الفساد وكهنة الانتحال تلك المساجد والمعابد والهياكل مآرب لأهوائهم، فصار كهنة اليهود ينتهكون أعراض النساء بقدس أقداس الهيكل (المسجد)، وصار بعض المشايخ والقساوسة والرهبان يمارسون الشذوذ المثليّ ويعتدون على القُصّر داخلها، أمّا التدنيس الأكبر فبتحويلها إلى مراكز لإهدار دم الصالحين وتأجيج الحروب، فقرارُ قتل الأنبياء وصلب عيسى(ع) خرج من كهنة المسجد، وقرار مطاردة محمّد(ص) وقتله تآمروا به بدار الندوة ببيت الله، وهناك داس أبوجهل بقدمه وجه النبي(ص) وهناك لوثّه بالنجاسات، وهناك بالمسجد الحرام سُرقت الحجّاج، واعتُدي على المساكين، وأُلِّبت الأحلاف، واتّفقوا على مقاطعة بني هاشم وحصارهم وتجويعهم، ووقّعوا وثيقة الإثم وعلّقوها بجوف الكعبة (تصوّر!).
لقد سُرِق دور المساجد السلميّ وصُيّرت مكاناً لهمجيّة الإرهاب وتقويض الأمان، ضرب نموذجها الحَجّاج بقوله: (والله لا آمرُ أحداً أنْ يخرج من بابٍ من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلاّ ضربتُ عنقه)، ومارست “الكنائس” إرهابها بعصور الظلام، لتصبح وكراً لجرائم ضد الإنسانية وكبت الحريات وممارسة أبشع التعذيب في أقبيتها، أطهرُ بقاعٍ تحوّلت -بفساد رجال السياسة والدين- إلى أنجسها، وآمنُ محلّةٍ أصبحت أرعبها، لذلك قيل لإبراهيم (طهّر بيتي) وقيل لنبيّنا(ص): (جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، وتركّز في الشريعة عدم جواز تمكين المجانين منها، لأنها تُذهب بأمن وُفّادها، ولذلك هدّ النبيّ(ص) “مسجد ضرار” لأنّه ليس بمسجد أمن وسلام، بل للوقيعة والقطيعة وتهييج الناس، فلا حرمة لمسجد/وكْر لم يُؤسّس بنيانُه على تقوًى من الفتن والتوظيف الكهنوتي للأهواء؛ لشذوذ جنسيّ، لإيقاد حروب، لتقطيع أواصر، لاستباحة مختلفين، ولتمكين المجانين بالعصبيات وبالمذهبيّات وبالبطولات الخاوية…الخ.
ونحن مقبلون على شهر الله والسلام، ينبغي عودة المساجد والمآتم لأدوارها الحقيقية لله ولإفشاء السلام، التي دفعت الأنبياء دماءها لإرسائها، وتحريرها من براثن الذين يقضون مآربهم فيها، فالمساجد لله، وهي سواءٌ لعباده، كلّ مسلم يحقّ له دخولها بأمان للتعبّد فيها، ولا يجوز أن يستغلها بعضٌ لصيحاته ولنزواته ولغزواته ولدسّ مفخّخاته، بل هي لله حصراً، يلجأ إليها كلّ طريد وخائف ومنقطع وعابر سبيل وطائف وعاكف.
ليست للمحاضرات الطائفية، والتهييجات العدوانيّة، فضلا أن تكون لشويخٍ مجنون يحوّل مكبّرات منائرها لصواريخ عابرة لأعراض خصومه المذهبيّين والسياسيّين.
إنّ حامل لواء حقوق الإنسان والعدالة الإلهية وُلد بجوف المسجد فسمي “وليد الكعبة” لكنّ القلوب المتزمّتة بالقشر الديني أصرّت على اغتياله بمحراب المسجد أيضا، فانتهكت الدمَ الحرام بالبقعة الحرام.. ثمّ تواصلت سلسلة لعنه(ع) بالمساجد أيضاً! وهكذا يفعل كلّ متزمّت قشريّ، يُطلق نداءات سفك دماء خصومه، والتعدّي على حقوقهم، ولعنهم، من مساجد وُضعتْ لنشر الإخاء والعدل والسلام!
على دولة القانون إن كان دستورها يمتّ إلى رسالة السماء، أو يمتّ لشرائع حقوق الإنسان وسواسية المواطنة، أن تعيد وقفيّة مساجد الله لله تعالى، وتطهّرها، لتأمن الناس، تنتشلها من الاستخدامات السيّئة المنفّسة عن أحقاد مثيرة للفتن، تقطّع النسيج الاجتماعي وتبثّ الكراهية والإرهاب، تحرّرها من استحواذ واحتكار فئات ومشايخ لها توجّه سياسي وعصبوي، وتخضّعها لقانون السلام، بقوانين وتدابير رادعة غير جائرة ترشّد طريقة استخدامها وفق مناهج الأنبياء للبرّ والتقوى، والأمن والإيمان، لا للإثم والعدوان، ومن أراد استغلالها لأغراضه الخاصّة صحيحةً كانت أم فاسدة، فلينطلق ليبثّها من بيت أبيه لا أن يخرب بيوت الله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا).