أشهُرٌ حُرُمٌ عالميّة

مملكة البحرين

جمعيّة التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة

 

أشْهُرٌ حُرُمٌ عالميّة

نحو هدنة إلزامية تحفظ للإنسان كرامته

 

الأستاذة كريمة الشكر

مؤتمر ” شرائع السماء وحقوق الإنسان – عودة للجذور”

مملكة البحرين: 3 إلى 5 أبريل 2010م

فهرست المحتويات

التمهيد

أولاً- مفاهيم البحث.

أ- الأشهر الحرم

ب- النسيء

ثانيا- منشأ وأصل فكرة الأشهر الحرم

أ- الأصل التاريخي للأشهر الحرم

ب- صور من تعظيم العرب للأشهر الحرم

ج- الأشهر الحرم في الإسلام

د- صور من تعظيم المسلمين للأشهر الحرم

هـ- قوانين الأشهر الحرم في الإسلام

و- معالجة الإسلام لعادة النسيء

ثالثاً- استدعاء الأشهر الحرم إلى الواقع الحالي

أ- حاجة الإنسانية الماسّة لمبدأ الأشهر الحرم

ب- بين مفهوم الهدنة والأشهر الحرم

الخاتمة والتوصيات

أ- عرض النتائج

ب- آلية مقترحة لاعتماد أشهر حرم عالمية (توصيات الورقة)

ملاحق البحث

أ- قباحة الحرب وبشاعة العدوان

ب- الآثار النفسية للحروب والنزاعات على المحتلين والمعتدين

 

 

التمهيد

عانى الإنسان على مر تاريخه الطويل من الحروب، فقضى عمرًا مديدًا في خوض غمارها والبراعة فيها، ولقد ذكرت الدراسات الانثروبولوجية أنّه من بين (360) حضارة سابقة وحالية، فإنّ ما يزيد عن 90% من تلك المجتمعات شاركت في حروب لمرة واحدة على الأقل، وهكذا فقد استسهل الإنسان قتل أخيه الإنسان، وتفاخر بالقتل والذبح وسلب الأمان، فعانت الإنسانية أيما معاناة بسبب الحروب، ولم تقصّر آلة الحرب في أداء دورها وإنجاز مهامها، دفع الرجل والمرأة والطفل والشجر والمدر نتائج أفعالها، فهيمنت الشرور وتنامت الأحقاد وتأصّل الرعب وانتشرت الجرائم وغُيّبت الضمائر.

في العرف البشري، أصبحت الحرب شرّاً لا مفرّ منه، إلا أنّ الرغبة في السلام والقدرة عليه حقيقة لا ريب فيها أيضاً، ورغم صعوبة توقف الحرب أو إنهائها، لكنّنا نجد في الطرف المقابل من يرفع رايات السلام، ويسعى إلى ابتكار وسائل وأساليب لمنع نشوب الحرب ولجم أوارها، فظهر عبر التاريخ من رفع صوته عاليًا كارهًا للحرب، داعيًا إلى الصلح وعقد الاتفاقيات والمهادنات وسنّ القوانين والتشريعات، إلا أنّ النتيجة الصادمة تشهد بأنَّ الدعوات الإنسانية باتجاه السلم لم تفلح في إدانة الحروب ناهيك عن منعها، بل إنّها تقع من الجهات التي شرّعت القوانين ووضعت أسسها، لأنّ منطق القوة هو المنطق السائد، الأمر الذي يؤكّد أنّ القوانين والتشريعات الحالية لم تتمكّن من ردع العدوان، أو فرض حالة السلم.

يذكر التاريخ بأنّ الحروب تنشب بين الدول والشعوب لأسباب لا حصر لها، على رأسها عوامل بيئية كالجفاف والفيضانات والكوارث الطبيعية الأخرى، إذ تدفع الكوارث البشر باتجاه القتال لتوفير الغذاء والموارد الأخرى، قد تندلع الحروب أيضًا بسبب الطمع ونزعات الهيمنة والاستعمار، وكذلك بدافع الثأر والانتقام. وفي بلاد العرب القديمة حيث قلة المصادر الطبيعية وشحّة المياه، فإنّ عوامل التنافس على مصادر الحياة بين القبائل تعدّ أهم أسباب الحروب، فكثيرًا ما ينقلب الصراع إلى قتال داهم، تطول أحيانًا فصوله المأساوية إلى مستويات لا حدود لها، إلا أنّ للحرب هناك أسباباً أخرى، منها صراع التحالفات، فقد دخلت قبائل المنطقة في حروب طاحنة مناصرة لأطماع دول عظمى كحرب المناذرة التي تحالفت مع الفرس ضد الغساسنة الذين تحالفوا مع الروم، ومنها الحروب التي قامت على أسباب فردية واستمرت عشرات السنين وخلّفت وراءها آلاف الضحايا، كحرب داحس والغبراء وحرب البسوس، كلّ ذلك أذاق المجتمعات العربية ويلات الحرب ومآزقها، حتى أنّ عقلاء العرب دعوا إلى وقفها ولجم أوارها، وفي ذلك يؤثر عن زهير بن أبي سلمى وهو من حكماء العرب قوله:

وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ        وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ  المُرَجَّمِ

مَتى  تَبعَثوها  تَبعَثوها  ذَميمَةً        وَتَضرَ إِذا  ضَرَّيتُموها  فَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ  عَركَ  الرَحى  بِثِفالِها        وَتَلقَح  كِشافاً  ثُمَّ  تَحمِل  فَتُتئِمِ

لم تتوقف الحروب بسبب مناسبات أو أوقات مقدّسة في أي من الحضارات على اختلافها، ولم يقيّد نشوبها أزمنة خاصة، ففي الغالب لا يوجد أوقات أو فترات ممنوعة، اللهم إلا عند بعض الأقوام الذين حرّمت ديانتهم العدوان في بعض الأيام، كأيام الحصاد في الحضارات القديمة، ويوم السبت عند اليهود، لكن في التراث العربي القديم الذي قسّم السنة إلى اثني عشر شهرًا، فإنّ القتال كان محرّمًا في أربعة أشهر كاملة، يسمّونها الأشهر الحرم، وقد كانوا يعظّمون هذه الأشهر، ويحرّمون فيها القتال، ويعتبرونها بمثابة أشهر هدنة وأمان، حتى لو لقي الرجل منهم فيهنّ قاتل أبيه أو أخيه تركه، وهم المعرفون بأخذ الثأر والانتقام، هذا المبدأ الإنساني السامي، هو من جملة ثوابت ورثها العرب عن نبي الله إبراهيم (ع) وابنه إسماعيل (ع)، اللذين سكنا الأرض المقدّسة، وأشاعا فيها مبادئ الفضيلة والسلم.

لقد كان الأساس الديني لفكرة الأشهر الحرم سببًا في قبولها عند العرب، إضافة إلى ذلك فقد وجد العرب في هذه الأشهر منفسًا ومخرجًا لممارسة أعمالهم والاستراحة من حالة كثرة الحروب والغزو والغارات، ورغم محاولات بعض السادة ورؤساء القبائل التلاعب بهذه الأشهر لتحقيق أغراض هنا ومصالح هناك، إلا أنّ الأشهر الحرم حافظت على قدسيتها واحترامها من قبل أغلب قبائل الجزيرة العربية، فلما بزغ الإسلام بنوره أكّد على الأشهر الحرم وتحدّث عن ارتباطها بنظام الخلق وسنّ لها القوانين والأنظمة.

وفي العصر الحديث، فإنّ الصراعات المسلّحة بأشكالها المتعددة أصبحت تمثّل تحدّيًا صارخًا لحقوق الإنسان، وانتهاكًا فاضحًا للرغبة في الحياة والاستقرار، اليوم حيث تضخّمت القوة وازدهر السلاح مع ولادة التخصّصات وتقدّم الصناعات، ونمت الغطرسة وعظمت الأزمة مع تطوّر التقنيات وتنوّع الاكتشافات، فإنّ الحرب– أكثر من أيّ وقت مضى- تعتبر كارثة كبرى تبرهن على غياب الرشد وتراجع المحبة وانتشار الكراهية، وتعكس قباحة الغيّ وغلبة التوحّش. إنّ الوقت قد حان للتحرّك باتجاه إقرار حقيقي لثقافة التعايش والسلام، واعتماد مشاريع من نوع غير اعتيادي تحدّ من العنف والعدوان، وتسنّ قوانين وأنظمة ذات طابع أممي تبعد شبح الحرب والطغيان.

اليوم، حيث لا يوجد لقرار الحرب ضابط، فهي تبدأ وقتما شاء المعتدي بضغطة زر، وتستمر عملياتها دونما وازع ولا ضمير، فلا أثر للقوانين، ولا رادع للقيم والأخلاق، ولا جدوى للاتفاقيات والمعاهدات،  أفلا يتوجب على الإنسانية اعتماد فترات إلزامية على مدار العام يمنع فيها -أيّ كان- ابتداء القتال، ويلتزم فيها القوي والضعيف –على حدّ سواء- بالسلام وبسط الأمان.

إذا سلّمنا بأنّ الإنسانية اليوم بحاجة ماسة لمبدأ يضمن لها حالة الاستقرار الاجتماعي الإلزامي الذي عاشه العربي قديماً، وتجسّد في فكرة الأشهر الحرم، فإنّنا في هذه الورقة نرجع الخطى إلى الوراء لندرس هذه التجربة الإنسانية، التي أثبتت نجاحها في تكبيل آلة الحرب ومنع اشتعالها، ولنستفهم ما هي الأشهر الحرم؟ وما حقيقتها ومدتها؟ وكيف أصبحت الحاجة ماسّة  اليوم لهذا النوع من الهدن؟ ولماذا؟ وهل هناك مقترحات مشتقة من هذه الفكرة تقودنا لسنّ قوانين تكبح جماح الحروب وتحدّ من ويلاتها؟ وهل أنّ إقرار هذا المبدأ سيحل أزمة تعيشها الإنسانية وتقلقها اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب وجود الأسلحة الفتّاكة بيد قرّاع طبول الحرب ومشعلي الفتن؟

أولاً- مفاهيم البحث

تتناول هذه الورقة مفهوماً أساسياً هو الأشهر الحرم، ومفهوماً فرعياً هو النسيء.

أ- الأشهر الحرم

السنة العربية القديمة سنة قمرية، فقد كانت مؤلفة من اثني عشر شهرًا قمريًا، وفي ذات الوقت هي سنة شمسية تعتمد على اعتبارات فصولية مناخية، ولذا نسبت أسماؤها أصلاً لفصول السنة الشمسية، فالربيعان لحصولهما في الربيع، والجماديان نسبة للشتاء، وقد كانت مقسمة إلى (6) أقسام، كلّ قسم يتألف من شهرين؛ فقد كان عندهم مثلا صفران وجماديان وربيعان، فربيع الأول وربيع الثاني، وجمادى الأول وجمادى الآخر، “ويظهر لنا مما ذكره مؤرخو العرب مثل الطبري والمسعودي وابن عبد ربّه والبيروني والميداني وابن خلدون والنويري، أنّ السنة العربية القديمة كانت قمرية-شمسية، بمعنى أنّها كانت مؤلّفة من (12) شهرًا قمريًا، ولكن كانوا يعدّلونها بالنسيء أو الكبس، فتدور مع سنة الشمس، ويظلّ توالي الفصول (ولاسيّما الحجّ) متمشيّاً مع السنة الشمسية”[1].

والأشهر القمرية كما هو معروف إلى الآن اثنا عشر شهرًا، منها أربعة أشهر حرم تعارف عليها العرب، ثلاث أشهر متواليات هي ذو القعدة، ذو الحجة ومحرّم، وشهر منفصل هو شهر رجب الذي بين جمادى وشعبان، ولقد ارتبطت تلك الأشهر بموسم الحج والعمرة، لذلك فإنّ لتلك الأشهر قدسية ومكانة خاصة، لا يجوز في أيّ حال من الأحوال انتهاكها، والغاية من وضعها هو أن يُحرَّم فيها القتال الذي كان شائعًا، فهي أشهر خاصة يستريح فيها الأفراد والقبائل من القتال[2], يكون الإنسان فيها آمناً على نفسه وماله، ويذهب الناس في هذه الأشهر إلى الأسواق للامتيار، حتى أن الأسواق الكبيرة كعكاظ وغيرها تعقد في الأشهر الحرم، كما ويذهب الناس إلى الكعبة للحج، وقد ورد في محنة حصار قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب التي استمرّت سنتين وقيل ثلاثا، أنّهم كانوا لا يجسرون على الخروج من الشعب للبيع والشراء وجمع المؤن إلا في موسم العمرة أو الحج حيث الأشهر الحرم[3]،  فقد كانوا يأمنون على أنفسهم في تلك الفترة رغم مضايقة قريش، وفي الأشهر الحرم يظهر الفرسان المعروفون بسفكهم الدماء دون خوف[4]، وهي كذلك عند العرب تعتبر أيامًا خاصة تُضاعف فيه الحسنةُ كما تُضاعف السيئةُ، وفي الإسلام ذهب الشافعي وكثير من العلماء إلى تغليظِ دِيةِ القتيلِ في الأشهر الحُرُم[5].

وأما الحكمة من تحريم القتال فيها، فقد أوردها ابن كثير في تفسيره؛ قال: وإنّما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل مناسك الحج والعمرة،  فحرّم (قبل شهر الحج) شهر واحد وهو (ذو القعدة)، لأنّهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرّم شهر ذي الحجة (لأنّهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحُرّم (بعده شهر آخر وهو المُحرّم) ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، (وحُرّم رجب) في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمناً[6].

إذن يتبيّن أنّ العلّة الأساسية من تحريم القتال في الأشهر الحرم هو تزامنها مع موسمي الحجّ والعمرة المعروفيَن والمبجّلَين عند العرب منذ زمن إبراهيم (ع)، لتوفير أمان مسارب حجيج الناس حين ينبعثون وينفرون للوفادة على ربّهم في أشهر معلومات؛ هي مسافة زمن رحلتهم الرحمانية تلك بحساب تلك العصور، ما يُشكّل فرصةً أو هدنةً مقدّسة لبعث النفس على السلام والتآخي وتوديع حزازة الحروب وضغائن النزاعات، ومن أجل تطهّر النفوس لتجد فرصتها في ممارسة الوفادة إلى بيت الله الحرام الذي كان له معنيان تاريخيّان آنئذ:

1- ممارسة شعائر التعبّد والتطهّر بالوفادة على ربّ العالمين، وبالإحساس بالأخوّة الإيمانية والإنسانية حتى للمختلفين والمتنازعين حين يجمعهم البلد الحرام، البلد الآمن، خاضعين.

2- كون المحجّ -حيث البلد الأمين- مثابةً للناس وأمنًا، إذ كان بمثابة مجلس أمن ومحكمة دوليّة يحتكم إليه المتنازعون، فهو فرصة لإخماد البنادق، وإغماد السيوف، وحلّ النزاعات عبر حكماء القبائل.

ب- النسيء

النسأة والنسيء: بمعنى التأخير، فقد عمد نفرٌ من العرب في الجاهلية على أن ينسأوا الشهور، فيحلُّون الشهر من الأشهر الحرم، فيؤخرون ذلك الشهر، ويحرّمون مكانَه الشهرَ من أشهرِ الحل، فيحافظون على عدّة أربعة أشهر حرم، وقيل أنّ أول من نسأ الشهور من العرب، هو القلمس حذيفة بن عبد بن فقيم، وكان آخرهم في زمن ظهور الإسلام جنادة بن عوف[7]، إذ كانت العرب تجتمع إليه بعد أن تفرغ من حجّها، فإذا أرادوا الغزو في شهر حرام أجاز لهم بأن يحلّوا ذلك الشهر ويحرّموا مكانه شهرا آخر، فالمهم أن يواطئوا عدّة الأربعة الأشهر الحرم.

ثانياً- منشأ وأصل فكرة الأشهر الحرم:

أ- الأصل التاريخي للأشهر الحرم

إنّ قسوة الحياة وشحّة الموارد جعلت من العرب أهل حرب وعدوان، تأخذهم الحميّة للبطش بلا رحمة، لكنهم عرفوا أيضا بمحاسن الأخلاق ومحبّة البرّ، فقد بُعث الأنبياء في هذه المنطقة، فأشاعوا فيها مبادئ السماء ودعوا إلى الفضائل والسلام والتعاون ونبذ الغزو والاعتداء، وعلى رأسهم نبي الله إبراهيم، الذي سكن المنطقة وعلّم الناس الكتاب والحكمة، إلا أنّ من طبيعة الناس التراجع إلى خصال الوحشية والهمجيّة وخاصة بعد غياب الإمام أو المرشد، فتردّت كثير من القيم مع تصدّر الأشرار، ولكن بقيت أيضًا كثير من العادات الحسنة، فالتوحيد والإيمان بإلَه واحد أحد ظلّ حيّا في قلوب نفر كثير من العرب عُرفوا بالأحناف، أما سائر العرب، فقد احتفظوا ببعض الآثار من مبادئ الأنبياء وبكثير من مظاهرها، فنسبوا إلى النبي إبراهيم (ع) بعض عاداتهم وسننهم، كطرق زواجهم وشكل لحاهم ولباسهم، وعظّموا بيت الله الحرام الذي بناه ورفع قواعده نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهم السلام، ورغم أنّهم نصبوا فيه الأصنام والتماثيل، إلا أنّهم استمروا يحجون إليه، ويعظّمون حرمته، ويحترمون زائريه، ويورثون سدانته، كما وأبقوا على ما تعارف عندهم من حرمة الأشهر الحرم، التي كانت معظمة في شريعة إبراهيم (ع) بحسب ما أورده المؤرّخون[8].

ولم يمنع شره الحرب والغزو عند العرب من تعظيمهم للأشهر الحرم تعظيمًا كبيرًا، واعتبارها سنّةً وديناً لا يجوز لأحد انتهاكه أو تجاهله، ولا ينبغي لأحد التجرؤ أو القفز عليه، ومخالفة ذلك تعدّ عيباً وعاراً عظيماً، يقابلون من يتعدّى عليها بالمقت والفجور، استمر ذلك حاضراً في سلوكهم ووجدانهم، وقد كان للعرب فجارات أربع ذكرها المسعودي[9]، عرفت بحروب الفجّار لأنّهم فجروا في الشهر الحرام فأضرموا نارها دون اعتبار لحرمة هذه الأشهر[10].

ب- صور من تعظيم العرب للأشهر الحرم

احتفظت كتب التاريخ بالكثير من الأحداث والآثار الواردة عن العرب والتي تبيّن درايتهم بحرمة الأشهر الحرم وتعظيمهم لها، وفي الأمثال الشائعة يقولون: عش رجباً تر عجباً، أي رويداً حتى ينقضي رجب الذي هو من الأشهر الحرم فانَّك ترى العجب من الحرب بعد انقضائه ولا يبقى الحال على ما تراه من الهدوء والمسالمة[11].

وورد أنّ الجماعة التي تخرج من بلادها لطلب التمر من اليمامة والتي تعرف بالسواقط لا تخرج إلا في الأشهر الحرم، طلبًا للأمان والسلامة، فإن لم يتوافق مسيرها مع الأشهر الحرم أقامت بالبلد إلى أوانه، ثم تخرج منه في شهر حرام[12].

وينقل عن الأعشي أنّه قال في رجل خرج في شهر حرامٍ، ثم لما همّ الشهر بالانفصال وهو لم يصل إلى أهله، فاعتصم برجل أجاره وحماه، فقال له:

فقبلك ما أَوْفى الرّفاد لجاره         فأنجاهُ مما كان يَخشى ويَرهَبُ

تَداركه في مُنصِل اْلآلِ بَعدما       مضى غير دَأْدَاءِ، وقد كاد يَعطبُ

ومعنى هذا البيت: أن لولا الإجارة لما نجا من المخاوف لأنّ خروجه كان في غير الأشهر الحرم[13].

وورد في الآثار العربية، أنّ رجلا يدعى ضبّة بن أُدٍّ كان له ابنان يقال لأحدهما سعد وللآخر سُعَيْد، فنفرت إبل لضبة تحت الليل فوجه ابنيه في طلبها، فتفرقا فوجدها سعد، فردها. ومضى سعيد في طلبها فلقيه الحارث بن كعب وكان على الغلام بردان فسأله إياهما فأبى عليه، فقتله وأخذ برديه فكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل سواداً قال أسعد أم سعيد؟ «ذهبت مثلاً يضرب في النجاح والخيبة»، فمكث ضبة كذلك ما شاء الله أن يمكث. ثم إنه حج فوافى عكاظ فلقي بها الحارث بن كعب ورأى عليه بردي ابنه سعيد فعرفهما فقال: هل أنت مخبري ما هذان البردان اللذان عليك؟ قال لقيت غلاماً وهما عليه فسألته إياهما فأبى عليّ فقتلته وأخذت برديه هذين. فقال ضبة بسيفك هذا؟ قال نعم! فقال فأعطنيه أنظر إليه فإني أظنه صارماً فأعطاه الحارث سيفه فلما أخذه من يده هزه وقال: »الحديث ذو شجون «ذهبت مثلاً ثم ضربه به حتى قتله، فقيل له: يا ضبة أفي الشهر الحرام؟ فقال »سبق السيف العذل « ذهبت مثلاً[14].

فرغم أنّ الرجل موتور وله حق الثأر حسب عرفهم، إلا أنّهم استنكروا فعله، قولهم: يا ضبة أفي الشهر الحرام؟ يدل على حرمة القتل في هذا الشهر.

وأطلقت على الحرب التي وقعت في شهر رجب الحرام قبل نحو عشرين سنة من البعثة النبوية بين بعض القبائل العربية بحرب الفجّار، لأنّهم فجروا في الشهر الحرام، قد روي أنّ أبا طالب منع أن يشارك أحدٌ من بني هاشم في حرب الفجّار، وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام[15].

ج- الأشهر الحرم في الإسلام

جاء دين الإسلام في ذلك المجتمع القبلي داعياً إلى السلام بين العالمين، مكرّساً نهج السلم في العلاقات بين الأفراد والمجموعات، فالسلم قيمة ثابتة وأساسية في الإسلام، والسلام هو قلب وجوهر الدين، وهو عماده في الدنيا والآخرة، أما الحرب فهي عارض تاريخي، هكذا كان الحال في زمن النبي (ص)، ثم في أزمنة كثيرة بعده، ولأنّ السلم كان هو الأساس في الشرائع والقوانين فقد تهيأت الأرضية للإنسان المسلم أن يبدع في الثقافة والعلم والمعرفة ويبني حضارة عظيمة.

ولقد أقرّ الإسلام من أخلاق وعادات العرب- قبل الإسلام- ما كان منها حميدًا، كالكرم وردّ الأمانات والوفاء بالعهد وكظم الغيظ وغيرها، وكذلك أقرّ بعض القوانين التي تتوافق مع مبدأ مجتمع السلم وصناعة الإنسان، وذكّر الناس بأنّ هذه المحاسن والمناقب هي من بقايا دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى:13)  فالدين واحد حمله رجال متعدّدون في أزمنة متعدّدة، وما محمد (ص) إلا خاتم المرسلين وبقية الأنبياء، والمتمّم لرسالتهم على الأرض، جاء ليحي معالم ما اندرس من تعاليم ربّانية، لذلك قال عنه الوحي (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)(آل عمران:144)، وقد قال عن نفسه (ص): “إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق“.

من أهم المبادئ  التي أثنى عليها الإسلام وثبتها مبدأ الأشهر الحرم، فقد حرص على إحيائه وإصلاح ما انتابه من اعوجاج، وأكّد بأنّ الأشهر الحرم تشريع إبراهيمي ربّاني، واعتبره قانونا ملزما، وعمل على  تقويمه وجعله ضمن تشريعاته، وفي ذلك نقرأ قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(التوبة:36)، الآية الشريفة تقرّر قانون الأزمنة وفق النظام الإلهي، واستخدمت لفظ “عدة” وليس عدد، لأنّ العدّة معناها العدد المغلق، لذلك يقال عدّة المرأة المتوفى زوجها، أو عدّة المطلّقة، والمقصود هنا بأنّ عدد الشهور عند الله بلا جدال هي اثنا عشر شهرًا، دون اعتبار لحساب آخر، وقوله “في كتاب الله” يعني في النظام الإلهي للأرض، أي القواعد المحكمة الذي قام عليه نظام الحياة على الأرض، ولأنّه قانون مثبت منتظم لا حراك له فقد جُعِل وأثبت في “كتاب الله” أي في نظامه المدوّن المسجّل الثابت.

وقوله تعالى: “عند الله” تؤكّد أنّ ذلك القانون قد وضعه الله وأراده، بغض النظر عمّا عند الناس، ولأنّه “عند الله” فهو يعني أنّه أصبح نظامًا كونيّا لا سلطان للناس عليه، مقداره اثنا عشر شهراً، وأنّ ذلك النظام هو وحده المتوافق مع نظام الأرض الطبيعي وقانون الحياة ومسيرة الإنسان، وهو بذلك يدحض فعل فئة من العرب في زمن النزول كانوا يغيرون الشهور القمرية وفقا للسنة الشمسية، فربما كانت السنة القمرية تتقدم على الشمسية فيعدلون القمرية ويمدّدونها، بغية تحقيق مصالح خاصة، لعلّ أهمّها تسويغ الاعتداء والقتال، فيؤول الأمر إلى التلاعب بالأزمنة وضياع هوية الشهور والاستهتار بشرع الله في أرضه.

وقوله: “يوم خلق السموات والأرض“، تؤكّد ارتباط هذا القانون بالإنسان، معمّر هذه الأرض ضمن فترة زمنية مخطّطة، لذا نفهم من قوله يوم خلق السموات والأرض، أي يوم جعلت السموات فضاءً للتدبير الكوني، والأرض ساحةً للتكليف الربّاني، والمتعيّن بهذا التكليف ذاك المخلوق المسئول عن حمل الأمانة أي الإنسان، فالسماء محلّ التدبير ومصدر الأوامر ومنبع الوحي (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ)(السجدة:5)، إلى مكان التنفيذ وموضع التشريع وموقع التصريف، ضمن المشروع الإلهي الذي يشرف عليه ملائكة مدبّرون يتولّون إنزال الوحي إلى الأرض على رسل مختارين يبلّغون رسالة السماء إلى الناس، فذلك المشروع الإلهي ارتبط باعتبارين: أوّلهما بالمكان أي بالأرض لأنّها مكان الإنزال، والآخر بالزمان تجسّد بعدّة من الشهور مقدارها اثنا عشر شهرًا هي زمان لذلك الإنزال.

ففي هذه الآية – سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل من السور- أراد الله للمسلمين بعد أن قويت شوكتهم العودة إلى نظام الاثني عشر شهرًا، لتوافقه مع نظام خلق الأرض، ولكونه مؤثراً أيضًا في تعيين الأشهر الحرم، وفي عدد من الشعائر المهمة التي كُلّف بها المسلمون وأمروا بإقامتها، كالصيام والحج وغيرها، وأيضًا لارتباط هذا النظام بنظام كوني شامل، له علاقة بالمشروع الإلهي الكبير، أي مشروع حمل الأمانة الذي وكّل به الإنسان على هذه الأرض، بإشراف منظّم بين الملائكة العلويين وبين البشر عبر رسل مختارين منهم، على فترات زمانية محددة، مقدار الواحدة منها ألف سنة، يعرف بزمن تدبير الوحي وإرسال أو بعث الرسل، قوامه الشهور القمرية، (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ” (السجدة: 5).

وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)(التوبة:36) لا تعني أبداً أنّ العلة في القتال كونهم بقوا على الشرك ولم يقبلوا بدين التوحيد، بل لأنّهم يقاتلونكم “كافّة“، فهو السبب في تحريض المؤمنين على قتالهم، لأنّ المشركين أرادوا أن يمنعوا “ويكفّوا” المؤمنين من الإيمان، فعملوا على قتالهم مجتمعين وبمختلف الوسائل والأساليب ليكفّوهم أي ليمنعوهم عن الاستمرار في دين الإسلام، ولهذا فإنّه يتوجّب على المؤمنين في المقابل أن يقاتلوهم “كافة“، أي يقاتلونهم مجتمعين وبأساليب ووسائل مختلفة أيضاً ليكفّوا عدوانهم ويحدّوا من عداوتهم.

فحين يدّعى المشركون أنّهم على دين الأصالة والقيم، لا بدّ وأن يقف القرآن أمام ادعائهم، لأنّهم في الحقيقة قد تخلّوا عن القيم واستهتروا بالمعروف، ومنها احترام الأشهر الحرم، والقرآن لم يدعُ أبدًا لقتالهم ما لم يبدأوا هم بالمحاربة، (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)(الحج:39)، لأنّ العدوان غير مقبول من أيّ كان، وما دعوة القرآن لحربهم إلا لأنّهم كانوا لا يعترفون للآخر بحق، ولا يعيرون اهتمامًا بالمقدّسات، بل ويرون أنفسهم فوق الحقوق والقيم، يتبجحون بالمنكرات ويجيزون التحايل على الثوابت، ويهتكون ما تعارف عليه العرب من معتقدات تحفظ ما تبقّى للإنسان من حرمة وقدسيّة، إنّ هتك تلك الحرمات هو هتك للنظام الاجتماعي وللحريات وحقوق الإنسان، فحرية العقيدة وزيارة بيت الله واحترام زمن الهدنة (أي الأشهر الحرم) مبادئ رئيسة كفلها القانون الإلهي، وحين يدوس المشركون على حرمات الإنسان ومبادئ الحقّ والفضيلة فإنّه لا سبيل أمام المؤمنين إلا محاربتهم لـكفّ أيديهم.

د- صور من تعظيم المسلمين للأشهر الحرم

عظّم الإسلام شأن هذه الأشهر وحرّم ابتداء القتال فيها، وقد لام النبي (ص) الصحابة الذين قتلوا في الشهر الحرام ورفعوا السلاح فيه، وذلك في حادثة بعث الرسول (ص) لعبد الله بن جحش وقد كتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا على بعد يومين من المدينة وكان معه جملة من أصحابه, فلما بلغ حيث أمره رسول الله فتح عبد الله بن جحش الكتاب فإذا فيه: “إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتى تنزل بنخلة بين مكة والطائف ترصد فيها قريشاً وتعْلمُ لنا من أخبارهم”، فقال عبد الله في نفسه سمعاً وطاعةً ثم قال لأصحابه: ” قد أمرني رسول الله أن أمضي إلى نخلة أرصد فيها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر وقد نهاني أن استكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن أبى ذلك فليرجع, فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، لكنّهم صادفوا عيراً لقريش فقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا منهم رجلين، فلما قدموا على رسول الله غضب غضباً شديداً ثم قال لهم: “ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام”، ولم يأخذ مما غنموا شيئاً[16].

وقد كان معروفاً تعظيم العرب شأن هذه الأشهر، وجاء في الصحيحين أنّ وفد عبد القيس جاءوا إلى النبي (ص) من البحرين وقالوا:”يا رسول الله إنّ بيننا وبينك هذا الحي من كفّار مضر وإنّا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهرٍ حرام فمرنا بأمر فصل نأمر به من وراءنا”.[17]

ورد أنّ الإمام علي تجنّب أن تقع حرب صفين في الشهر الحرام ما أمكنه، ورغم بدء مناوشات كثيرة بين الجيشين، إلا أنّ علياً أرسل إلى معاوية وقال له: «هل لك إلى أن نتهادن شهراً، وأن لا يحدث فيه قتال، لعل أن نتفاوض ونتفاهم؟»[18]. فلما انسلخ المحرم بعث علي منادياً، فنادى في عسكر معاوية عند غروب الشمس: إنا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحرم، وقد تصرّمت، وإنا ننبذ إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.

ذلك هو العرف السائد والمبدأ المحترم، وقال الحسين الخليع وهو من شعراء المجون في العصر العباسي معبّرا عن رغبته في التخلّص من القيود التي تفرضها الأشهر الحرم:

بنفسي حبيبٌ أَمَّ مكَّةَ مُكرهاً         يُعـالجُ مسـتوراً منَ الحـزنِ والألمْ

كلانا وحيدٌ لا يُسرُّ بمؤْنسٍ         منَ النَّاسِ حتَّى تنقضي الأشهرُ الحرمْ

أحنُّ إلى شهرِ المحرَّمِ ليتهُ         غَـداةَ غـدٍ قد كانَ أوْ بانَ فانصـرمْ[19]

هـ- قوانين الأشهر الحرم في الإسلام

كما تقدّم، فإنّ الأشهر الحرم تشريع ربّاني بمثابة النظام الكوني، اكتسب قدسيته من خلال مسيرة الإنسان المقرّرة على الأرض، إذ الإنسان هو المخلوق الذي من المؤمل له أن يكون خليفة الله على هذه الأرض، ينشر فيها العدل ويقيم القسط ويدعو إلى السلام، وعلى ذلك فقد أكّد التشريع الإسلامي على الأشهر الحرم، ودعا إلى العمل به، وشرّع قوانين للأشهر الحرم، منها:

أولاً: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة:217). فرغم حرمة القتال في الشهر الحرام، لكن انتهاك السبل الآمنة بالصدّ عنها.. والكفر بأمان الشهر الحرام بالاعتداء فيه.. وانتهاك حرمة المسجد الحرام بإخراج أهله منه، كلّ ذلك يُعدّ أكبر حرمة وأشدّ ضرراً من القتال الدفاعيّ في الشهر الحرام، إذ حرمة الإنسان أكبر، والمحاربون للنبي (ص) وأصحابه يعلمون أنّ للشهر الحرام قيمة مقدّسة محترمة عند المسلمين والعرب على حدّ سواء، فاختاروا القتال فيه لاعتقادهم بأنّ المسلمين لن يدخلوا الحرب فيه أبدًا، وربما تكون الفرصة مواتية للقضاء على دولة النبي (ص)، لكن التوجيه القرآن جاء صريحًا بأنّ الواجب في هذا الموقف أن يردّ المسلمون ذاك الاعتداء ولو كان في الشهر الحرام دفاعًا عن أنفسهم وعقيدتهم ودولتهم، وتقديسًا لمبدأ صدّ العدوان.

ثانياً: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً)(المائدة: 2). هنا وصيّة باحترام شعائر الله وبعدم انتهاكها، والشعائر هي المناسك الدينية الربّانيّة المُصاغة في قوالب محدّدة كالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وسوق البدن ونحرها، ووقوف عرفة، والإفاضة لمشعر منى، ووصية أخرى باحترام الشهر الحرام، وهو العقد الذي بين الله والناس جميعا، فلا يُنتهك الشهر الحرام، تماما كما لا تُنتهك العبادات والنذور القاصدة لبيت الله وحرمه الآمن.

ثالثاً: قوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(المائدة:97). تقرّر الآية بأنّ الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قد جُعِلَت قياما للناس، وقياما بمعنى حاجزًا ومانعًا، فكأنَّ الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد كلّها بمثابة حواجز مانعة للناس، فالكعبة مكان تُحجَز وتُمنَع فيها السلوكات المحرّمة كالرفث والفسوق والاعتداء، والهدي والقلائد مواش مهداة ممنوع التصرّف فيها، وكذلك الشهر الحرام محطّة زمنيّة ممنوعٌ تجاوزها أو التعدّي عليها، فالشهر الحرام له حرماته، ويفرض على أصحاب الديانات أن يعتبروه حاجزًا يمنعهم عن الحرب والاعتداء (أو التحايل بالنسيء)، بمعنى أنّ الشهر الحرام زمن توقّف، يتوجّب عليهم أن يقوموا فيه عن البدء بقتال، أو المضي في قتالٍ ابتدأوه في شهر سابق له، فهو بمثابة سياج للحماية عن الحرب والعدوان وسفك الدماء، لكي ينفضَّ الناس لله، ويتركوا القبائح التي كانوا يمارسونها سابقًا، والله مراقبهم، فالشهر الحرام نظام كونيّ وهو من شعائر الله، جُعِل ليكون حدّاً مانعاً على مستوى الفرد والمجتمع.

رابعاً: قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(البقرة:194). الشهر الحرام لا يجوز انتهاكه، لكن إن انتهكوا هذا الشهر وقاتلوا فيه فيجب أن تردّوا العدوان، لأنّ عزّة الدين وكرامة الإنسان أعظم عند الله، فالقتل محرّم في الأساس، لكنّ العدوان مذموم ومبغوضٌ أكثر ويجب أن يتوقف لئلا يعمّ الفساد ويغلب الباطل، ومن انتهك الحرمات فقد استوجب القصاص أي مقابلته بالمثل لردعه.

خامسا: قوله: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ..)(التوبة:5)، تؤكّد الآية على حرمة القتال في الأشهر الحرم، في هذه المرحلة حيث الدولة القوية، فإنّ الموقف قتال، وداعي قتال المشركين قائم ومشروع، ولكن أخّر القتال احتراماً للأشهر الحرم، ولأنّ المشركين المعتدين أولئك قد كفّوا القتال في الأشهر الحرم آنئذ لكنّهم لم يكفّوا عدوانهم العامّ وما يزالون يطلقون تهديدات وإشارات بالانتقام والثأر ومواصلة البغي، فجاء قرار الدين بترك المشركين يجولون آمنين ما داموا في الأشهر الحرم، فإذا انسلخت الأشهر الحرم فعليهم أن يباشروا بقتال من آذاهم وقاتلهم وحرّض عليهم وتربّص بهم، في الآية تثبيت لحرمة الأشهر الحرم، وإظهار لاحترام المسلمين للأشهر الحرم، والتزامهم بحرمة القتال فيها رغم أنّهم يملكون مبرّرات القتال، ولا ينقصهم العدة والعدد.

يتبيّن مما سبق، حرص الإسلام واهتمامه بالأشهر الحرم، وبمعالجة كلّ الظروف التي يمكن أن تحيط بالمسلمين وتجعلهم أمام واقع الحرب ومحنة التعامل مع الأشهر الحرم، فالاعتبار الأول والأصيل هو بإعلاء قيمة الأشهر الحرم ومنع انتهاك حرمتها.

و- معالجة الإسلام لعادة النسيء

أدّى تلاعب العرب بالأشهر الحرم أو ما عُرِف بالنسيء إلى امتداد الحروب والصراعات، فلما انتشر الإسلام وعمّت الدعوة الإسلامية معظم الجزيرة العربية، أعيد الاعتبار للأشهر الحرم وتوقّف التلاعب بها، والحثّ على الدخول في السلم كافة (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(البقرة:208)، فنزل الأمر بحرمة “النسيء” والعودة إلى ما كان عليه الحال من الأشهر الحرم الأربعة المتعيّنة بشهر رجب وذي القعدة وذي الحجّة ومحرّم، قال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(التوبة:37)، فقد اعتبر القرآن قضية النسيء بأنّها زيادة في الكفر والضلالة عن الدرب الإنساني السوي، وأنّها أسلوب يستخدم من قبل أصحاب المصالح والغايات لغواية الناس والتلاعب بهم، وبسبب هذه العادة التي استشرت في المجتمع، فقد تغيّرت مواقع الشهور، ووقع الاختلاف بين القبائل، فقد كان بين مضر وربيعة خلاف في توقيت الشهور، فكانت مضر تجعل رجب الشهر المعروف الآن، أما ربيعة فكانت تجعله رمضان، ولم تحلّ هذه المعضلة إلا بظهور الإسلام  الذي أكّد على أنّه (رجب مضر).

وقد ذكر الرسول (ص) في حجة الوداع: “إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان[20]، فبيّن (ص) إنّ أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى ما وضع عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السماوات والأرض، وهي دعوة بالمحافظة عليها لئلا تتبدل فيما يأتي من الزمان، وقد خصّص رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان لإزالة أي لبس عن شهر رجب الذي قصده، وليؤكّد أنَّه الشهر الذي تعتمده قبيلة مضر، وهو الذي بين جمادى وشعبان، لا ما كانوا يسمونه على حساب النَّسيء فيختلفون فيه ومن ثم يستحلونه. (لأنّ “رجب” في اللغة تعني المعظّم المهيب، فبإمكانهم عبر عمليّة النسيء التحايليّة نحلُ وصفِِه لأيّ شهر يشاءون، وسلبه عن الشهر الحقيقيّ الذي بين جمادى وشعبان)

إذن هو واقع إعادة الاعتبار لمبادئ وقيم السماء، فرضه الدين الجديد على أتباعه، ليؤكّد أنّه امتداد لشريعة الأنبياء، فالأشهر الحرم نظام معمول به منذ عهد إبراهيم وإسماعيل(ع)، وأنّها من حرمات الله وبها تحفظ المصالح ومواسم التجارات والتداول الثقافي وتقام الشعائر، وأنّ تعظيم حرمتها مبدأ أساسي وتشريع ثابت لا يجوز انتهاكه، وبذلك كان لهذا المبدأ دور كبير في تأسيس مجتمع السلم والإعمار.

ثالثاً- استدعاء الأشهر الحرم إلى الواقع الحالي

زادت جرعات التقدّم العملي والتكنولوجي التي تشهده الإنسانية اليوم من ويلات الحرب ومآسيها، فالإنسان اليوم طوّر أعقد العلوم وابتدع أعظم الاكتشافات ليس بدافع النهوض وخدمة الإنسان، بل لحاجته إلى تطوير جهازه العسكري وعدّته الحربية، والنتيجة مزيد من الدمار وانعدام للأمن، من هنا تبرز الحاجة إلى الاحتذاء بفكرة الأشهر الحرم وفرض هدنة إلزامية تفرض على القوي قبل الضعيف، ويُحاسب الجميع على انتهاكها أو تجاوزها. (ملحق البحث)

أ- حاجة الإنسانية الماسّة لمبدأ الأشهر الحرم

هكذا هو الإنسان على هذه الأرض، لم يختلف حاضره عن ماضيه، يشعل الحروب فما تلبث أن تعصف به وتورده المهالك، لم تحمل جميع الحروب إلا عنوانًا واحدًا هو الموت والدمار وزهق الأرواح بدم بارد، وكأنّ الإنسان لا يعرف إلا لغة المواجهة وخطاب الموت، ولا يفهم إلا قعقعة السلاح والدمار، ولكن في جميع الأزمنة، ارتفعت أصوات المصلحين والحكماء، تنادي بالعودة للمبادئ والقيم التي تحيي السلام وتبسط الأمن، وتعيد الناس إلى أصولهم وفطرتهم وما يملكون من أرصدة الرحمة والتسامح ومحبة الخير والتنافس للبناء والاعمار.

إنّ جوهر فكرة الأشهر الحرم هو حرص الأديان على تأصيل القيم التي ترتبط بالسلام وتؤسّس للتعايش والتناغم بين بني الإنسان، فالدين منهج تربوي قيمي بالأساس، يرسي بذرة القيم على مستوى الوعي والوجدان والمشاعر، ثم يعتني بالسلوك ويحرص على تشكيل قناعات تتجسّد في الممارسات والتطبيقات العملية التي تخرج المبدأ من القوة إلى الفعل، لتصل بالناس في نهاية المطاف إلى تعميم ونشر ثقافة  السلام والتآخي الاجتماعي، والتعاون على سيادة الأمن ومن ثمّ توفير أجواء العمل والإنتاج على قاعدة التعارف والتوادّ والتعايش، وعمران الأرض ونشر العدل.

لذا فإنّه من الممكن ملاحظة البعد القيمي والإنساني لاعتماد الإسلام مبدأ الأشهر الحرم، وتحريم القتال فيها، المتمثل في عظيم اهتمام الدين بالنفس الإنسانيّة، فكان أن فرض ذلك القانون وحرص على إحيائه، هو وغيره من القوانين ليكفل حماية الناس ويصون مصالحهم، ويوفّر سبل السلام والأمن للإنسان، ليفهم علّة وجوده، ويدرك واجباته ويسعى لأداء أدواره، فالشرائع السماوية شرائع أخلاقية، تحفظ الدماء وتصون الأنفس وتحرص على لجم شرورها ووأد سطوتها، وتحرص كلّ الحرص على الاهتمام بالإطار الأخلاقي القيمي للمجتمع، وتوصي بحفظ العرف الحسن وإعلاء شأنه لضمان إشاعة الخير والتعاون على البرّ، من هنا فإنّ احترام الأشهر الحرم في العرف العربي والإسلامي يعني احترام لمبدأ الشرف، وانتهاكه انتهاك لعرف مقدّس يستوجب مخالفته غضب الرب وفساد الأرض.

ب- بين مفهوم الهدنة والأشهر الحرم

كان الظلام قديمًا في فترة الحروب هو استراحة للجيوش المتحاربة، وهو فترة هدنة للناس جميعًا، فالمعارك يومها تبدأ عند الفجر وتستمر حتى مغرب الشمس، فالجيوش قديمًا تعتمد المواجهة المباشرة والقتال وجهًا لوجه بالسيف والرمح وغيره من أدوات الحرب يومها، وقد كانت فترة الليل فترة التقاط الأنفاس، وحلول السكينة والهدوء، هكذا كانت الحرب يومها تسكن في الليل (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً)(الأنعام:96)، وتشتعل في النهار، قال تعالى: (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً)(العاديات:3)، ساعات الليل هذه تخفّف وطأة الحرب وشدة غلوائها، وتعوّض شيئًا ما حصار الحرب وقيودها.

لكن في الزمن الحديث، وبعد التطور التكنولوجي الهائل وظهور أجهزة الرؤية الليلية، وأجهزة المراقبة واستخدام مشاعل الطائرات وبواعث الإضاءة المختلفة، فقد انتفى عدم إمكانية القتال ليلاً، وأصبحت الحرب أقوى ما تكون في الليل، حيث يختلط عنصر المباغتة خاصة مع إمكانية رؤية العدو في الليل وتحديد مكانه، في الوقت الذي لا يرى العدو مصدر الهجوم أو القصف، ذاك تطوّر هائل وتصعيد خطير وتقدّم مشهود للعقل الإنساني، لكنّه أدخل الإنسانية في نفق حالك أشدّ قسوة وخاصة على المدنيّين، الأمر الذي حفّز القانون الدولي لاستحداث ما يعرف بهدنة الحرب، التي تتأخّر أو تتقدّم وفقا لرغبات العدو وليس تحسّبًا لجراحات وآلام المنكوبين، حتى أنّ الكثير أصبح يرى عدم جدواها، ما يحفّز لاستحداث هدنة ذات طابع آخر أكثر وأشدّ إلزاماً.

نعم لقد سنّ القانون الدولي ما يعرف بالهدنة في الحروب، وهي معاهدة تهدف إلى وقف الأعمال العدائية خلال الحرب بين الأطراف المتنازعة، ولا علاقة لها بإنهاء الحرب إنَّما هي فقط وقف اقتتال لفترة زمنية محددة، لا تلزم أحدًا بسلام لا جزئي ولا مؤقت، إنّها فقط توقّف العمليات العسكرية إلى المدّة التي تتفق عليها الأطراف، بهدف نقل القتلى والجرحى من ميدان المعركة، وكذلك لتأمين الغذاء والدواء للمدنيين في مناطق النزاع. لذلك نستطيع أن نفرّق بين الهدنة المعروفة اليوم في القانون الدولي، وبين الهدنة الإلزامية أو هدنة الأشهر الحرم كالآتي:

1- أنّ الهدنة تبدأ بطلب من أحد الأطراف المتحاربة وعادةً ما يكون الطرف الأضعف إلى الطرف المضاد في النزاع، وبعد عدّة مفاوضات ولقاءات يتم التوقيع عليها، ولا يهدف هذا الطلب إلى وضع حدّ للحرب أو التراجع عن القتال، بل قد تكون الهدنة مذلّة جدًا للخاسر إذ يمكن أن تجبره على التنازل عن الأضرار التي أحدثها خلال الحرب، ولهذا السبب لا تؤدي الهدنة إلى التراجع عن الحرب، بل هي بمثابة التقاط الأنفاس استعدادًا للمرحلة القادمة، بينما تعطي الأشهر الحرم للمتحاربين فرصة إجبارية طويلة الأمد لمراجعة النفس، وإعادة الحساب.

2- مدّة الهدنة يحدّدها الأطراف المتنازعة، قد تكون لساعات قلائل فقط، وغالبًا لا تكون تلك المدة نافعة حتى لإيواء المنكوبين وإيصال المعونات، والقيام بأعمال الطوارئ، ولكن فترة الأشهر الحرم طويلة تعدادها شهر كامل وقد تمتد لثلاثة أشهر كاملة نافذة المفعول ولا خوف من انتهاكها.

3- في الهدنة هناك خوف من أن ينتهكها أحد الأطراف، فلا قانون ملزم، ولكن في الأشهر الحرم من الممكن ضمان استمرارها حين ترتبط بقانون دولي تصادق عليه جميع الدول.

4- لا تبرم الهدنة في الغالب إلا عبر وساطة جهات عسكرية أو دبلوماسية، وربما يستغرق التفاوض أياما طوالا، أما الأشهر الحرم فهي بمثابة هدنة إلزامية تفرض نفسها زمنيّا على جميع المتحاربين، وترغم المتحاربين على وضع السلاح، وتوفير الأمن لكافة الأطراف.

يظهر مما سبق أنّ الإنسانية لو تبنّت قضية الهدنة الإلزامية، واعتمدت أشهرًا تمتد إلى أربعة أشهر كاملة تفرض فيها الأمن وتغمد فيها السيوف وتغلّ أسلحة الحرب، لتمكّنت من الحدّ من تفاقم مشكلة الحروب والاعتداءات التي باتت تعصف بمقدّرات الأمم وتضعف إنسانها، ولربما أعانت هذه الأشهر شعوب العالم على تحقيق استقرار بمنحنى يبتعد عن التأرجح.

الخاتمة والتوصيات:

أ- عرض النتائج

إنّ تدهور الأمن أصبح تحدّيا بارزًا أمام الإنسانية، أدخلها في أزمة أفقدتها حالة الاستقرار الاجتماعي، وتحوّل بسببها الإنسان إلى وحش كاسر ومسخ غادر، فلم يعد بالإمكان التعويل على صحوة ضميره أو نقاء فطرته أو بقية عقله، إذ باتت السبل إلى إصلاح أمره متعذّرة، ولم يبق أمام الإنسانية إلا سلاح القانون يشهر في وجوه تجار الحروب ومحرّضي العدوان، ليلجم سطواتهم، ويحدّ من جبروتهم، لأنّ النتيجة التي خلصت لها الإنسانية بعد سلسلة من الدروس والتجارب تؤكّد بأنّ الحاجة إلى قانون دولي يقيّد الحروب ويحدّ من نشوبها قبل أن تشتعل إذ يصعب حينها وقفها، فربّما يتمكّن القانون من تحقيق الغلبة على  الضمائر ويفوز عليها لفرض الكرامة وإعادة الاعتبار للإنسان.

أمّا ديانات السماء فقد وعت لطبيعة الإنسان العدوانية، ولنزعاته لسفك الدماء، وأن لا سبيل للجمه إلا بقانون يفرض السلم ويشتت شبح الحرب، فوضعت قانون الأشهر الحرم، وحدّدته في أربعة أشهر كاملة، وربطته بأداء مناسك روحانية يتوفّر فيها أجواء المراجعة والمحاسبة والعودة إلى الفطرة الخيّرة وإعادة النظر في الأمور، حدّدت مبادئ السماء أربعة أشهر زمناً للسلم والأمن ووضع أوزار الحرب، أربعة أشهر في السنة تعادل ثلث العام – أي ما يعادل مائة وعشرين يومًا- فترة كافية من الممكن أن توفرّ للمحاربين فرصة لمراجعة الذات وإعادة الحسابات، والنظر في بشاعة الحرب وفظاعة العدوان، والجنوح إلى خيارات أخرى أقرب إلى السلام والرحمة، وما تلاعب بعض العرب قبل الإسلام بالأشهر الحرم والعبث بأزمنتها وابتداع ما أسموه النسيء إلا دليل قوة تأثيرها على لجم الحرب أو تأخيرها وربما التراجع عنها.

العالم اليوم مدعو لأن يستفيد من هذا المبدأ الربّاني ليفرض قانوناً عالمياً يلزم الشعوب على هدنة إلزامية تدان فيها الحرب ويجرّم مرتكبوها، ليست قصيرة المدى، بل طويلة تمتد إلى أربعة أشهر، لأنّه في هذا الزمن الوحشي والرهيب، زمن أسلحة الدمار الشامل فإنّ الأمر بات أكثر إلحاحاً للجمّ ألسنة الحرب وقارعي طبولها، بما يليق بالرقي الإنساني والسمو الحضاري لإنسان اليوم، العالم اليوم بحاجة ماسّة إلى هدنة إلزامية للتأمل والمراجعة والنظر إلى العواقب والتفكير في المصائر.

ب- آلية مقترحة لاعتماد أشهر حرم عالمية (توصيات الورقة)

لطالما ابتدع المصلحون العالميون الأفكار والأساليب لإشاعة الأمن والسلام، والدعوة إلى برامج ومشاريع حقيقية تنهض بالإنسان والمجتمع، وتتطلع لتنمية إنسانية شاملة، تؤسّس على مبدأ الاستقرار بعيدًا عن شبح  الحروب ومرارة العنف، وتسحب البساط من تحت أقدام الغزاة والمعتدين، وتفرض مبدأ الحوار والمشاركة والاحترام وتقبل الاختلاف.

والإنسان عبر تاريخه الحافل توارث ما ينفعه وما يضرّه، ولكنه ظلّ بحاجة إلى التنقيب عن تجارب ناجحة أثبتت نجاعها وفاعليتها، فالخبرات الإنسانية الراشدة تبقى قيمة كبرى يمكن الاستفادة منها وتطويعها، وإنّ ما تنعم به الحضارة البشرية اليوم ما هو إلا تراكم المعرفة وحصيلة التجربة، حين أحسنت قطف المنافع وبحثت في مقاصدها، فالكتابة مثلا مرّت بسلسلة من الابتكارات ابتدعت أولا في بلاد العراق ثم انتقلت إلى الشعوب الأخرى فطوّرتها وطوّعتها حتى ظهرت بالشكل الذي نراه اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة للزراعة والصناعات والإبحار وغيرها، إلى جانب ذلك فقد انتقلت إلى الشعوب طرائق التعليم والتطبيب، بل وإنّك لتجد عند بعض الشعوب تقاليد متشابهة مرجعها فكرة ذات أصول قديمة ظهرت بتجليات مختلفة كفكرة الاحتفال بدخول الربيع وفترات الخصب.

الإسلام أيضًا دعا إلى النظر في أحوال الأمم السابقة والرجوع إلى تجاربها الناجحة بل والمخفقة أيضا، ففي زمن النبي محمد (ص) قبل العمل برأي سلمان الفارسي حين أشار عليه بحفر خندق عميق واسع شمال المدينة يلتف حولها من الغرب إذ كانت الجهات الأخرى محصنة بالجبال والنخيل، وهو تقليد الحروب في بلاد فارس، وبالفعل كان لهذه الفكرة الفضل في كسب الحرب وحقن الدماء ومنع الالتحام بين الجيوش المجتمعة على حرب المسلمين في المدينة. وبعد النبي (ص) استُقدم بالترجمات إرث الأمم ونتاجها المعرفي في مرحلة الدولة الإسلامية، فانفتح علماء المسلمين وفلاسفتهم على ثقافات ونتاج الأمم السابقة، وسنّت الأنظمة القوانين لمحاكاة قوانين وأنظمة الدول المجاورة وخاصة بلاد الفرس والهند والروم.

وهكذا في العصر الحديث، تبادلت الشعوب التجارب، واستوردت الدساتير والقوانين  الناجحة، وبها قامت الدول وشيّدت المؤسسات والأنظمة، كذلك اليوم تستجلب تواريخ ومناسبات من الغرب أو من الشرق، ثمّ تعولم بما يتوقّع منها بعد زمن أن تصبح جزءًا من هوية الشعوب أو تُمزج بثقافتها، كيوم عيد العمّال وعيد الأمّ وعيد الحب، كما أنّ المنظّمات الدوليّة تبنّت تواريخ على مدار العام واعتبرتها أيامًا عالمية تقام فيها الفعاليات والاحتفالات، كاليوم العالمي للماء وللبيئة، واليوم العالمي للمرأة، واليوم العالمي لمرض الإيدز، واليوم العالمي لمكافحة التمييز العنصري واليوم العالمي لمكافحة الفقر وغيرها بما يزيد إحصاؤه عن ثمانين يومًا عالميًا خلال العام الواحد، وقد ساعد الاحتفال بهذه المناسبات على نشر التوعية بأهمية هذه القضايا وتعزيز القيم الإنسانية والعالمية في المجتمعات، كما شجّع على ابتكار أنشطة تطوعيّة موجّهة.

نحن هنا نطرح تجربة الأشهر الحرم، لكونه نموذجًا ربّانيًا، وجد على بقعة جغرافية تُعدّ أصل العالَم القديم ومركز شعوبه وأديانه، وكان هذا النموذج سببًا رئيساً في تقليص مساحة الحرب وزمنها، وبعث حمائم السلام، نموذج بالإمكان اليوم محاكاة مثيله العالمي، في زمن انزاحت فيه الهدن الطبيعية فما عاد نهارٌ يفرق ولا ليل، بسبب التطوّر الهائل في عدّة الحرب وفي بنية الإنسان الحضارية والعلمية واختراع الكهرباء وتطوّر التقنيات.

فاليوم عالَمُنا أحرى وأولى وأحوج لوضع أزمنة محرّمة دوليّاً ويُعاقب منتهكيها، تأسيّاً بالعناية الإلهية حين تدخّلت لتفرض دينيّاً المزيد من الحُرَم (الهُدَن) الزمانية لكبح مواقد الحروب وتقليل سيّء آثارها، وفي هذا السياق نوصي الآتي:

1-   أن تنظر الأمم في أمرها، وتنتقي أشهرًا تستقيها من استطلاع أديان الشعوب وثقافاتها ومعايشها.. (كمثل أن تكون أشهر العطلة الصيفيّة لمئات الملايين من تلاميذ العالَم والمدرسين هي أربعة الأشهر المحرّمة دوليّا عن القتال)، غاية الأمر أنّا لا نستطيع أن نقترح كيفيّتها أو نفرض مواعيدها، فهذا أمرٌ يتمّ بتدارس وحوارٍ عالمي، لكن لابد من وجودها، ليأخذ السلام فسحته بالإفشاء، وللأضغان فرصتها بالخمود، وليفسح السبيل أمام الحكماء والمصلحين لإعمال مساعيهم الحميدة.

2-   نقترح أن تتولّى إحدى هيئات الأمم المتحدة المختصة بالقانون الدولي الإشراف على ولادة هذا المبدأ، عبر تشكيل ممثّلين عن هيئات دينية وحقوقية وقضائية ومتخصّصين في التاريخ الإنساني وفي علم الأديان لدراسة الموعد الملائم لهذه الهدنة الملزمة، شرط أن تحصل موافقة أوّلية عليها من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

3-   من الممكن أن يُعتمد التاريخ الإنساني بكل تنوّعاته وأصوله، في شقّه الشرقي والغربي على حدّ سواء، إلى جانب الكتب الدينية الرئيسة، مع الاستناد إلى روح القانون الدولي كمرجعية مرشدة لهذه الدراسة، وذلك لضمان استخلاص تواريخ مناسبة ومقبولة من شعوب العالم.


ملاحق البحث

أ- قباحة الحرب وبشاعة العدوان

رغم أنّ الحروب تتنافى مع الحالة الطبيعية للإنسان ذي الطبيعة الخيّرة المسالمة الأنيسة، التي تحثّه على الاستقرار وبناء الحضارة، وتشجّعه على اعتماد طرق أقل عنفاً للتعبير عن الاختلاف أو حلّ المنازعات، إلا أنّ البشرية ما انفكّت تعاني من ويلات الحروب في جميع مراحلها بلا استثناء، لدرجة أن استقرت قناعة في أذهان الناس بأنّ الحروب هي جزء من موروثات ابن آدم وتكوينه البيولوجي، وهي إحدى ثوابته الفطريّة، وأنّه من شبه المستحيل أن يتوقّف البشر في يومٍ ما عن شنّ الحروب، نقول ذلك ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين، والإنسانية تخلّصت في أغلب مواقعها من القبلية والانعزال، وأصبحت تتباهى بالتحضّر والتمدّن، وقد بلغت قمم العمران وسبرت أغوار العلوم، وانتقلت إلى عصر الدول والمؤسسات القانونية والديمقراطية والمجتمع المدني السلمي.

الحرب، أي العنف المنظم المميت بين مجموعتين أو أكثر، تشكّل أعمق أشكال العنف البشري تدميراً، والحديث عن الحرب وآثارها المدمّرة لأسس وركائز المجتمعات، لا يقتصر على الحرب النظامية الكبرى، فالحروب في أشكالها الحديثة التي تميّز بها عصرنا الحالي، والتي  تظهر على شكل حرب عصابات وحالات تمرّد وأحزمة ملغمة واعتداءات وتفجيرات، لا تختلف نتائجها الرهيبة ولا تقل عن الأولى من حيث معدلات التدمير وحجم المخلّفات والمآسي. ومع تطور وسائل الاتصال، والتفنّن في صناعة واستخدام الأسلحة المدمّرة المخيفة، أصبح من غير الممكن حصرُ الآثار المترتبة عليها في بقعة جغرافية واحدة، فالآثار السلبية تتجاوز مواقع المعركة لتطال حتى المُشاهِد في مناطق بعيدة عن ساحات القتال، والآثار النفسية غالباً ما تكون عميقة ومؤثّرة خصوصًا عند الأطفال، نتيجة ما تنقله عدسات الكاميرات من مشاهد الدماء والقتل والتدمير وهتك لحرمة الإنسان الجسدية والمادية والمعنوية.

نظرة على إحصائيات الحروب ربما تضعنا أمام الصورة البشعة لنتائجها الكريهة، فقد أدت الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية وكافة الحروب التي شهدها القرن العشرون، إلى مقتل ما يزيد عن (3) بالمائة من سكان العالم، ففي حين قتل في الحرب العالمية الأولى حوالي (10) ملايين إنسان، فقد قتل في الثانية (15) مليون إنسان[21]، ناهيك عن أضعاف هذه الأرقام من الجرحى والمعوقين والمثكولين.

إنّ التغيرات في طبيعة الحرب الحديثة، واستخدام التكنولوجيا كعنصر أساسي في آلتها الحربية، تفسّر الزيادة الحادة في إصابات المدنيين وبالأخص الأطفال والنساء، وتفيد جراسيا ماتشل المدافعة عن حقوق الأطفال في تقرير لها في دراسة قدمتها للأمم المتحدة بعنوان: “تأثير الحرب على الأطفال: “أن الصراع المسلح يقتل ويسبّب إعاقات جسدية للأطفال أكثر من الجنود”. واستناداً للتقرير، فإنّ إصابات المدنيين زمن الحرب ارتفعت من (5%) عند بداية القرن العشرين إلى (15%)  أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى (65%)عند نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ما هو أكثر من (90%) في حروب التسعينات، فخلال العقد الماضي قتل نحو مليوني طفل في الصراع المسلح وثلاثة أضعاف ذلك أصيبوا بجراح خطيرة أو أصيبوا بإعاقة دائمة، وآخرون يصعب حصرهم قد أجبروا على مشاهدة أعمال عنف مرعبة أو حتى المشاركة فيها، وكثير من الأطفال حرموا من الحاجات المادية والوجدانية لاسيما الجوانب التي تعطي معنىً للحياة الاجتماعية والثقافية”[22].

أكثر الناس معاناة من النزاعات المسلّحة هم المدنيون، فالآثار الواقعة عليهم مأساوية إلى أبعد الحدود، إذ تجبر الحروب المدنيين الآمنين إلى النزوح القسري وترك البيوت ومصادر الرزق، والابتعاد عن الأهل والأحبة، والحرمان من أبسط أشكال الحياة، بل إنّ تغير طبيعة النزاعات منذ الحرب العالمية الثانية، وتبدّل شكل المواجهات من معارك تدور رحاها بين جيشين أو ثلاث جيوش نظامية، إلى حروب المدن أدّى إلى وقوع المدنيين في معاناة لا حدّ لها، وإلى صور أكثر بشاعة ناتجة من ويلات تلك المواجهات المسلّحة.

إنّ تداعيات الجروح النفسية والجراح الروحية للشعوب، أشد وطأة على الإنسانية من الدمار الشامل، ففي كثير من الأحيان، يتحوّل السكان المدنيّون إلى رهائن توجّه إليهم السهام من كلّ جانب، حيث يعانون من حالات القلق والاضطراب، وصعوبات في التفكير تتطوّر إلى أشكال من الصدمات والهستيريا، نتيجة تعرّضهم إلى ألوان الخوف والتهديد، والشعور بالإهانة والعجز والحسرة، ناهيك عن المصاعب الاقتصادية الحادّة التي يتعرّضون لها، فالمسألة لا تتعلق بالحالة التي يمرّ بها النازحون في الأيام الأولى، حيث يجبرون على النزوح والبحث عن مناطق آمنة، بل إنّ الأمر يتعدّى في أغلب الأحيان إلى اضطرارهم بشكل متكرّر إلى تغيير الملاجئ عدة مرّات بما بات يطلق عليه “دورة النزوح”.

إلا أنّ السلاح الأشد فتكًا في الحروب هو التدمير النفسي، الذي يدمّر التوازن النفسي للمدنيين، وبالأخص الأطفال، ويؤكد المختصّون أنّ أخطر آثار الحروب هو ما يتوقّع ظهوره بشكل ملموس على جيل كامل من الأطفال الذين عاينوا الحروب، فحين يكبرون سيعانون حتمًا من مشاكل نفسية تتراوح خطورتها على قدر الظروف والرعاية التي يتعرّض لها الأطفال أثناء وبعد الحرب، فالأطفال في أجواء الحروب يعانون من حالات الفوبيا المزمنة من الأحداث أو الأشخاص أو الأصوات التي ترافق وجودها مع وقوع الحدث مثل الجنود، صفارات الإنذار، الأصوات المرتفعة، الطائرات، إلى جانب الأعراض المرضية مثل الصداع، المغص، صعوبة في التنفس، التقيؤ، التبول اللاإرادي، انعدام الشهية للطعام، قلة النوم، الكوابيس، آلام وهمية في حال مشاهدتهم لأشخاص يتألمون أو يتعرضون للتعذيب، فإن شاهد الطفل وقائع قتل مروعة لأشخاص مقربين منه مثل الأب والأم أو الأشقاء، أو عاين جثثًا مشوّهة فإنه يصاب عندها بصدمة عصبية قد تؤثّر على قدراته العقلية، وتشير الدراسات إلى أنّ الفترة التي يعيشها الأطفال تحت تهديد هجوم متوقّع للعدو أو احتمال التعرّض لغارات جوية له تأثير سيئ جدا عليهم خصوصاً من هم في أعمار الثامنة وحتى الرابعة عشر.

ويكفي أن نعلم بأنّ (25%) من الإصابات التي يتم إجلاؤها هي حالات هلع وذعر، وأنّ حالة واحدة بين كلّ أربع إصابات من تلك الحالات تحتاج إلى التدخّل العاجل، كما أنّ (30%) من الإصابات البالغة هي لأطفال دون الثانية عشر من العمر، وأنّ كلّها أعراض تصنّف تحت حالة اضطراب ضغوط الصدمة، وتسبب اختلال الاتزان النفسي والإدراك والتفكير، وفقدان الشخص للسيطرة على انفعاله، فيظلّ في حالة ذهول ورعب، ويستعيد مشاهد القتال الرهيبة ولا يقوى على التركيز أو الاستجابة للمحيطين به، ولا يستطيع النوم من هول الكوابيس المزعجة رغم ابتعاده عن أماكن القتال.

ففي العراق مثلاً، الذي أودت الحرب فيه إلى مقتل مئات الآلاف من العراقيين، حيث يواجه المدنيون الموت جرّاء الحرب إمّا جوعًا أو قتلاً، أمّا الأطفال فيتعرّض الكثير منهم إلى التشرّد واليتم، وتقع أمامهم الفواجع ويعاينون المشاهد العنيفة، بل ويرغمون أحيانًا على ارتكاب أعمال العنف، ناهيك عن الحرمان الاضطراري من التعليم والتعرّض للإهمال في التربية والتوجيه، كلّ ذلك يخلّف في دواخلهم  ذكريات لا تنسى، وقد ورد على لسان أحد ممثلي الأمم المتّحدة، أنّ أكثر من مليون طفل عراقي بحاجة إلى علاج نفسي من جراء الصدمة النفسية التي تعرّضوا لها خلال الحرب.

من مآسي الحروب، ما يصاحب الغزو العسكري والقتال المسلح من موجات اغتصاب وانتهاك لأجساد النساء سواء في حملات جماعية منظمة أو في حوادث متفرقة وفردية، تحدث من المقاتلين أو من غيرهم، فالحرب والمواجهة تجبر بعض الجنود للبحث عن متنفس سريع بعد ساعات من القتال، يكون ضحاياه نساء ضعيفات، كما أنّ القتال والاشتباك يدفع الجنود للخروج عن أطوارهم فيندفعون بغريزة جنسية قوية كيفما اتفق وإن كان بالقوة والإكراه، وفي بعض الأحيان يعدّ الاغتصاب وسيلة لإرضاء غرور القوة تجاه الضعيف، وهنا يصبح الهدف ليس الاستمتاع وإنّما تحقير العدو وإذلاله ونزع إنسانيته، وفي أحيان أخرى يمارس الاغتصاب بدافع التطهير العرقي كما جرى في دارفور وكوسوفو وسريلانكا.

وقد كشفت دراسة للأمم المتحدة عن ظاهرة الاعتداءات الجنسية في مناطق الحرب أرقامًا مفزعة نذكر منها: أنّ (90.8%) من نساء ليبيريا تعرضن للاغتصاب، ولم يكن المغتصبون يميزون بين الكبيرة والصغيرة، وأنّ (50%) من اللاتي تعرضن للاغتصاب في الكونغو، والبوسنة، وكمبوديا تقل أعمارهن عن (12) عاماً[23].

وأشار تقرير صادر من الأمم المتحدة أنّ حالات الاغتصاب لا تكون حصراً في مناطق القتال، بل وفي معسكرات اللاجئين التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وفي أحد المعسكرات تبين أنّ (75%) من النساء الموجودات في المعسكر تعرّضن للاغتصاب خلال فترة الإقامة في المعسكر، وأنّ جنود بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة متورّطون في الكثير من جرائم الاغتصاب والعنف ضد المرأة. وهناك العديد من الاحتجاجات التي تقدّم بها السكان المحليون من مختلف البلدان ضد جنود الأمم المتحدة أنفسهم[24]!

وقد ظهر في بعض البلدان كما في كمبوديا والكونغو ومنطقة البلقان أنّ الأمر لا يقتصر على الاغتصاب، بل يتطوّر إلى قتل الفتيات المغتصبات بعد اغتصابهن، بحيث يتم بعد ذلك تقطيع أجسادهن وأخذ الكلى، وبعض الأجزاء الأخرى، من أجل بيعها لبعض بنوك الأعضاء البشرية، وفي ليبيريا وحدها تم العثور على (250) ألف جثة ناقصة الأعضاء[25].

ب- الآثار النفسية للحروب والنزاعات على المحتلين والمعتدين:

ولا تقتصر شرور الحرب على المدنيين والأبرياء، بل تتجاوزها إلى العسكريين والمعتدين على حدّ سواء، لأنّ الحروب والنزاعات شرٌ كلّها للإنسان ظالما كان أو مظلوماً.

فمنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى شرعت الأبحاث لدراسة تأثيرات الحرب على الجنود والضباط المحاربين، فرصدت حالات نفسية مرضية خطيرة، كالذهول والهستيريا، وحالات الأزمات التهيجية-الحركية، إضافة إلى البكم لدى رؤساء الفرق، والصمم عند المشتغلين بالهواتف، وغيرها من أشكال الشلل والتشنجات.

أمّا في الحرب العالمية الثانية، وبالرغم من التطوّر في تكنولوجيا الحروب، من حيث الآليات والخطط والأسلحة الفتّاكة التي تستعمل عن بعد، إلا أنّ الدراسات أكّدت على ما خلّفته هذه الحرب من اضطرابات نفسية، ففي أمريكا وحدها، تمّ إدخال حوالي (40) ألف جندي أمريكي مستشفيات الأمراض النفسية، ويكفينا معرفة أنّ عدد الأطباء النفسانيين الذين يباشرون الجيش الأمريكي ارتفع من (35) طبيبًا سنة (1942) إلى (1800) طبيبًا نفسيًا سنة (1945)[26]، وقد رصدت اضطرابات ذهانية عند المحاربين القدامى، وحالات الرهاب والهستيريا والوسواس والتي تعد أمراضاً شائعة لدى من خاض هذه الحرب.

ولا يختلف الأمر في العصر الحديث، حيث لم تنشب حروب عالمية، ولكن لوحظ أنّ القلاقل والنزاعات كالحرب الكورية، وحرب فيتنام، وحروب التحرير وحرب كوسوفو والشيشان، والحرب العراقية الإيرانية، والحرب على أفغانستان والعراق والحروب الأهلية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، لا تقلّ آثارها ومخلفاتها عن تلك، ففي الحرب الكورية ظهرت حالات نفسية مرضية أدّت إلى تخصيص عناية نفسية للجنود، وفي حرب الجزائر: – بين سنة (1945) و(1962) – ومع تكاثر غياب المجنّدين ظهرت أمراض نفسية حربية، مما تطلّب زيادة عدد الاستشارات النفسية[27]، أما عند الإسرائيليين، فإنّ التقارير الإسرائيلية تتحدث عن ضياع أعداد من الجنود بسبب الاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى انتشار الإدمان والمخدرات بين الجنود.

والأمر لا يقتصر على ذلك، فقد ظهرت أنواع جديدة من الأمراض بين الجنود، كالقلق والهذيان واختلالات الانتباه، وفقدان الذاكرة، إضافة إلى انتشار حالات الاكتئاب المصحوبة بالشعور بالندم، والمظاهر الجماعية للهلع، وشيوع حالات الانتحار.

 

—————————————-

[1] – موقع جامعة أمّ القرى، الأشهر العربية القديمة والإسلامية، http://www.uqu.edu.sa/page/ar/102475

[2] – إلا بعض القبائل مثل طي وخثم وبعض بني الحارث وبني كعب، أنظر (الشهرستاني، الملل والنحل، ج2، ص247).

[3] – المحقّق العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص)، ج3، ص196.

[4] – جواد علي، المفصل في تاريخ العرب، ج2، ص 792.

[5] – النووي، روضة الطالبين، ج10، ص 196.

[6] – ابن كثير، التفسير، ج2، ص369.

[7]– السيرة النبوية، ابن هشام، ج2، ص 12.

[8] – المصدر السابق، ج 4، ص 24.

[9] – الدمشقي، البداية والنهاية، ج3، ص 453.

[10] – ابن منظور، لسان العرب، مادة “فجر”.

[11] – الزمخشري، المستقصي في الأمثال، ص473

[12] – المبرد، الكامل، 1994، السواقط: من ورد اليمامة من غير أهلها.

[13] – النهشلي، المتع في صناعة الشعر، ص243

[14] – الزمخشري، المستقصي في الأمثال، ج1، ص131.

[15] – اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، مج1، ص337.

[16] – العسقلاني، شرح الباري فتح صحيح البخاري، ص 687.

[17] – مسلم، الصحيح، (كتاب الإيمان)، ص17-24.

[18] – كمال السيد، أصلب من الأيام، ص 228.

[19] – أبو عبيدة، الديباج، ص165.

[20] – البخاري، الصحيح، ج5، ص126؛ الصدوق، الخصال، ص487.

[21]

[22] – المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – دراسة الآثار النفسية للأطفال والتلاميذ الفلسطينين الناجمة عن أشكال العدوان الصهيوني – http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/atar%20nafssiya/p13.php

[23] – موقع معا لدعم قضايا المرأة – http://www.maan-sy.org/?page=show_details&Id=48&CatId=&table=violance

[24] – موقع معا لدعم قضايا المرأة – http://www.maan-sy.org/?page=show_details&Id=48&CatId=&table=violance

[25] – المصدر السابق

[26] – اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، دراسة حول الآثار النفسية للحروب والنزاعات على المحتلين والمعتدين – http://www.maan-sy.org/?page=show_details&Id=48&CatId=&table=violance

[27] – المصدر السابق

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.