إعلان التجديد يلقيه رئيس الجمعية الأستاذ عيسى الشارقي

WhatsApp Image 2020-02-03 at 10.03.17 PM (1)

إعلان التجديد

ترى جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية أن الاستقلالية هي منهج ضروري لكل اجتماع انساني، يوائم بين ضرورتين؛ ضرورة حفظ الفرد وضرورة حفظ نظام الجماعة، حيث لا يوجد مجتمع إلا وهو مختلط التوجهات والمصالح. فالقاعدة الجامعة بين الناس المختلفين هي قاعدة القيم الإنسانية الكونية، والتي هي الأساس في خطاب الأنبياء، لا النظرة الخصوصية لكل طائفة وفرقة وملة ومذهب وعقيدة دينية أو غير دينية، فهذه تفرق وتلك تجمع، ولا قيامة لأي مجتمع إلا إذا قام إنسانه فرادى وجماعات مستقلين ليدخلوا في السلم كافة، فهناك دائما مشترك بين الناس يجب البناء عليه، إنها دعوة إلى الكلمة السواء والبناء عليها.

ترى الجمعية أن ثمة مجموعة من التعاليم الدينية والإنسانية تؤسس لمنهج الاستقلالية:

أوّلها الدعوة للدخول في السلم كافة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وثانيها أن تكون حرية الاعتقاد مصانة إقرارا للآخر بمصالحه (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)، وثالثها العمل بسنّة التدافع بالتي هي أحسن لتحويل العداوة إلى ألفة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ورابعها العمل وفق سنة التغيير التي تبدأ بتغيير النفوس لتتغيّر الأحوال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وخامسها الوعي الفردي ونبذ التبعية العمياء (لا يكن أحدُكم إمعة)، وسادسها الاهتمام بالناس ونبذ الأنانية (من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم)، وسابعها المرونة في المطالبة بالحقوق.

بهذا “المنهج” يمكن أن تنهض شعوب تجاهد متطلبات الحياة المتجددة، وبه تقام دول عريقة ترتقي على أزماتها العميقة.

هذه حقيقة علمية مدروسة وليست خيالا أو وهما مستخلصا من تمرد فرد هنا، أو انتفاضة فئة هناك، أو حتى ثورة شعب، أو انقلاب عساكر، فهذه كلها (تمرد، انتفاضة، ثورة، انقلاب) يمكن أن تهدم حصونًا وقلاعًا، ولكن سريعا ما يعاد ترميمها، وبناء أخرى جديدة على أيدي القادمين الجدد، يملؤها الخوف والرعب من الآخر القريب قبل البعيد، وقد ترك لنا التاريخ أمثلة كثيرة.

وسط هذه الفوضى سنجد ظروفا سانحة لنشأة منظومة تحتنك ناصية الإنسان ووجهته العقائدية ، بل تمزق الأوطان إلى طرق متقاطعة متعارضة، فكل من على هامشها هو صدامي بالضرورة، سيجد نفسه وسط اتجاه غير الذي خرج إليه، سيجد نفسه مندفعا في مسارات لا خيار له فيها، سيجد نفسه تلقائيا في مرمى الآخر الذي لا يراه إلا عدوا، بسبب أو بلا سبب.

 يحدث ذلك في كل مكان لأنه يحدث أولا في الوجدان المخترق بفتن سياسية؛ أقل ما يقال عنها سياسة رخيصة، ومعادية للإنسانية، فهذا النوع من الدنس السياسي المصطنع، يحاكي الحس العقلاني والخلق المتعالي، بادعاء أن قيما عليا توجهه، وواجب أعلى يدفعه، وهو (الدنس السياسي) فعال لاختراع البطولات واستعراض القدرات للغايات التي صنع من أجلها من تشويه الآخر وانتهاكه، تستمد طاقتها من الكذب والافتراء، والإشاعات وتحريف الكلم عن مواضعه والتشويه، والخداع والاستفزاز، والعبث والمغالطات، والتحريض وانتهاك الحرمات …… الخ، وكلها جرائم محرمة إنسانيا قبل أن تكون محرمة عقائديا.

قال النبي(ص) محدثا أصحابه: لا يكن أحدكم إمعة، يقول أنا مع الناس إن أحسنوا، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا، أن تجتنبوا إساءتهم.

فالانغماس في أوهام عميقة كانت أو سطحية، فذلك سيان، فكلها تصب في معنى واحد محظورٍ إنسانيا قبل أن يكون عقائديا، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين.. ومتى فعل المرء ذلك مرة سيفعله مرارا، وهذا ضد الفطرة الإنسانية، ولا يوجد عاقل يعي الحقيقة ولا يقبلها.

هناك طرق عديدة للتغيير الآمن وكلها طرق تبدو موحشة لقلة سالكيها، أولها أن تبدأ مستقلا بنفسك فنفسك هي محور وجودك.. “إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ”، عندها ستجد من يعينك على نفسك وسترى أنك لست وحدك في الطريق، فابدأ أنتَ تجدْ اللهَ معك.

الاستقلالية صحوة حب حقيقية، حب الذات وحب الآخر الغير مشروط، وهذا النوع من الحب يجعلك مدركا بذاتك مؤمنا بحقيقتك، فأنت العربة وأنت قطارها في الحياة.

فالاستقلالية لا تعني السكون والجمود أو عدم الاكتراث واللامبالاة أو الانكفاء وعدم الاهتمام إلى ما هنالك من معاني المقت التي لا تمت لها بصلة، قال النبي (ص) من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، وإنما هي وعي ويقظة يتمسك بها المرء المستقل كمنظومة قيم ومبادئ تقود حركته وسلوكه ودوافعه نحو الوسط النقي (أي: الدفع بالتي هي أحسن)، وتعني الولوج النشط في معالي الأمور وحقول الإبداع لقضايا أمته وأزماتها،

فالاستقلالية ضرورة ملحة تهم المسلم قبل غيره، ومن له عقيدة أخرى أو دين آخر فدينه لن يدعوه إلا للوعي واليقظة والتمسك بمعالي الأمور، وقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ هي طلب للتلاقي مع الآخر على كلمةٍ سواء كل من موقعه لا للتدابر والانفصال.

فالاستقلالية لا تكون عفوية ودون بذل جهد نفسي وإنما تتطلب إرادة ذاتية حرة، ولا تتم بالتبعية والتقليد، والتهرب من تحمل المسؤولية، ولا بالإملاء بإقحام الأديان والعقائد في حراك تقشعر منه الأبدان،

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ

ومن الملفت للنظر أن الكثير من الناس للأسف لديهم القدرة على التضحية باستقلاليتهم وبدينهم وعقائدهم وكل شيء لأتفه العواطف والأسباب الدنيوية، هذا الخيار البائس يكون في العادة نتيجة للخواء العقلي كنتيجة حتمية لفقدان البصيرة، فالبصيرة هي ذاتية مستقلة وغير تابعة أو مقَلَدَة وهي ثروة تمد صاحبها بالأسباب واستيعاب الواقع والحال.

الاستقلالية تمثل نقطة ارتكاز وتحوّل نحو فضاء واسع وبالتالي هي أداة إحساس المرء بكيانه من جهة ودوره مع الآخرين من جهة، فالبصير لا يمكن أن يضحي بإحساسه بذاته وكيانه، كأن يشطب نفسه من الوجود، فهذه الاستقلالية هي سماته الروحية المشتملة على الحقوق الأساسية للإنسان، والتي تنشأ عنها عقلية لنظم قيمه ومعتقداته، والتَمَيُز بها ذاتيا في الحال، وفيما وراء الواقع والأفق البعيد.

سيظل الأمن، والتواصل، والتماثل، والتعامل، والتجانس، والوعي بالمصالح العامة، والمواقف المسؤولة، حلما يراود (الحاكم والمحكوم)، و(الغني والفقير)، و(المسلم وغير المسلم)، (أي كل معني بالسياسة والاقتصاد والاعتقاد) ما لم تكن الاستقلالية بعدا أساسيا في حياتهم.

هذا الثلاثي لا يمكن أن يتماهى منسجما أو مندمجا في الآخر كذاتٍ اعتباريةٍ معنويةٍ ما لم ينحاز موضوعيا نحو الاستقلالية، وأن يكون على حياد بين طرفيه (الحاكم – الغني – الديني) والعكس كذلك (المحكوم – الفقير – اللامسلم أو اللاديني).

وفي حال الانسجام والاندماج بين هذه الأطراف سنجد نسيجا من القدرات الإرادية التفاعلية للتعاطي مع القضايا بصورة تلقائية وأكثر من إيجابية، فالنتائج الإيجابية المرجوة لا تعكس تصورا فرديا بل هي قدرة مجتمعة، أو صورة مجتمعية، لها كيان قائم بذاته ومقومات يتمسك بها الجميع، فكلما اتضح ميلنا نحو

الاستقلالية سنحافظ على خطواتنا نحو الإيجابية أكثر وأكثر، حفظا للنتائج الإيجابية وتعزيزا لكيانها ومقوماتها.

فالاستقلالية دلالة على التقدم الواقعي نحو الأفضل وليس وهمًا في الفراغ أو التراجع والتخلف، إنه تقدم واقعي يتنامى ويتطور مع حركة الزمن كأسلوب حياةٍ مُعاشةٍ، فالاستقلالية تسمح للكل أن يؤدي واجباته على النحو المطلوب، ويقوم برسالته بفعالية كعنصر مكمل للآخر، وليست وثبة عليه،

فمن الأفضل للمرء أن يكون مصلحا لذاته مستقلا بصلاحه (لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب)، من أن يكون صالحا للتبعية، وهذا يتطلب ثقافة عميقة تفلسف الوسيلة والغاية، كخلاصة للتوازي بين ما هو عقلاني وبين ما هو روحاني في هذا الاتجاه، فكلما توسعت هذه الثقافة كلما تطورت مناعتنا الإنسانية، واتسع منظورنا للتغيير من حال التبعية العاطفية والتقليد الأعمى، إلى فاعلية الإبداع والقيادة الحديثة ووحدة المصير.

الإنسان لا يتخلى عن إنسانيته، ولكن منطقه في الحياة هو ضد إنسانيته أحيانا، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، فذلك ما يجرده منها، والإنسان لا يخسر حقه في الحياة تلقائيا إلا إذا توقف عن إثبات حقه في الوجود، وهذه مغامرة خاسرة قطعا.

فالاستقلالية هي القاسم المشترك (همزة الوصل) بين الجميع.

نعم اخترنا الاستقلالية وهي القاسم المشــترك بين كل الناس، والابتعاد كل البعد عن استغلال عواطف الناس، والتقوقع في قضاياهم والمتاجرة بها باســم الدين، ومن ثم إعادة شــحنها أو توظيفها سياسيا خدمة للمجهول، لا لسنا كذلك، ولن نكون إلا كما كنا فقط.

الاستقلالية هي الوجه العملي للحرّية الذاتية التي فوّضها الله سبحانه وتعالى للإنسان، ليختار مجتهدًا براءة الذمة، تجديدا لإنسانيته، والعيش بسلام وكرامة، دنيا وآخرة.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.