كلمة تدشين موسم استئناف الحياة يلقيها نائب الرئيس الأستاذ رضا رجب

WhatsApp Image 2020-02-03 at 10.52.04 PM

 تدشين موسم استئناف الحياة


بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوةُ والأخواتُ الكرام
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ،

يقول تعالى: ” وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ”
في هذهِ المرحلةِ الحساسةِ والدقيقةِ من تاريخِ الأمةِ، والتي نقفُ فيها على أنقاضِ طوفانِ أحداثٍ ارتفعتْ فيها أمواجُ الفِتَنِ، وتلاحقتْ عليها النوازِلُ والمحنُ، فتغيّرتْ ملامحُ المجتمعاتِ حتى أصبحْت مشوَهّةً بندوبِ آثارِها، وانحدرتْ قيمُ اجتماعِها، ذلك أنّ “الخلطاءَ”، وشركاءَ الأوطانِ والأديانِ والإنسانيةِ، قد بغى بعضُهم على بعضٍ. واجْتِيَحَتْ أرضُ سلامِ الإنسانِ، و”الخلطاءُ” إخوةُ الدياناتِ والإنسانيةِ يموج بعضُهم في بعضٍ “وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ”.

بعدَ انحسارِ الطوفانِ “قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ”

وقفَ نوحٌ عليه السلام أمامَ مشهدِ الأرضِ المنكوبةِ، يتأمّلُ هوْلَ الخرابِ وكأنهُ انعكاسٌ لتضاريسِ نُفوسِ الأممِ التي ركِبَتْ معه، أُمّةُ مؤمنينَ بدعوتِهِ؛ ومعَهم أمَمٌ ممنْ لم يُؤمنوا، لكنهمْ ركِبوا معه طلبًا للسلامَةِ والسلام.

وقفَ يتأملُ وهو متيقنٌ أنّ قَدَرَ هذا الوجود الإنسانيِّ ليسَ هذا الخرابَ الممتدَّ على وجهِ الأرضِ،

ولا قدَرَ الإنسانِ مهما كان انتماؤه أنْ يفقدَ سلامَه، بل إنَّ قدَرَه “الحياةُ” كما أنَّ قدَرَ الأرضِ إعمارُها.

هذا ما كانَ يراه نوحٌ ويدركُه،

يرى أنَّ الحياةَ الانسانيةِ التي عُطّلت دهرا طويلًا لابدَّ من استئنافِها، لابدَّ من حياةٍ واعدةٍ جديدة تقومُ على أنقاضِ ما خلّفته الفتنُ وما خربَّه الطوفانُ،

حياةٌ تبدأُ بإدراكِ الحاجةِ لإعادةِ بناءِ العلاقاتِ الإنسانيةِ الضروريةِ،

وتستمرُ بالكدحِ على طريقِ تلبيةِ الحاجاتِ الضروريةِ الأولية،

فكانَ هذا واجبَهُ الانسانيَّ قبلَ الدينيِ، واجبُه أنْ يعيدَ رسمَ مشهدِ الوجودِ الإنسانيِ على قيمٍ ومبادئ أصيلةٍ صادقةٍ مختلفةٍ جذريًّا عنْ تلكَ التي سادتْ عالمَ ما قبلَ الكارثةِ،

كانَ يضعُ أسسَ فلسفِة وجودِ “الخُلطاءِ”، ومفاهيمَ حياتِهم، وقيمَ ثباتٍ يحملُها الإنسانُ لِتحمَله هي للسعادةِ والنموِ والازدهار إنْ أرادَ النهوضَ من جديدٍ صادقاً.

عرفَ نوحُ أنّ المهمّةَ صعبةٌ ولكنَها ليستْ مستحيلةً، حدّدَ الغايةَ ورسمَ مسارَ السعيِ، ومدّ يدَ الحاجةِ لطلبِ العونِ ليستهلَ به الحياةَ الجديدةَ كما عُلِّمَ “ربّ أنزلني مُنزَلاً مُباركاً وأنت خيرُ المنزِلين“.

أفصحَ عن حاجتِهِ لنزولٍ مُبارَكٍ قائمٍ على صدقِ النوايا والإخلاصِ في السعيِ، والالتزامِ بالقيمِ والعملِ وفقَ مفاهيمَ إقامةِ الحياةِ الكريمةِ لكلِّ الخلطاءِ، نزولا مباركاً ينفي عن نفسِه ما يُقوّضُ أسسَ الاجتماعِ السليمِ، ويُحرّم على نفسِه استعمالَ الفتنِ لتخريبِ العلاقاتِ ببثِّ الكراهيةِ، ويزدري كلَّ أسلوبٍ يحملُ في جيناتِه البغيَ والعدوانِ.

أرادَ لِسفينة الحياةِ التيِ أبحرَ فيها أن تنزلَ مُنزلاً مُباركاً على جُوديِّ المحبةِ، فالمنزلُ منَ الأرضِ مهما كانَ غنيّاً بالمواردِ لا يكونُ مبارَكاً بغير سيادةِ المحبةِ.

المحبةُ هي أسُّ البركةِ، بها يتّسعُ الضِيقُ، وبها تُستعادُ نضارةُ القلوبِ، وبها تنشرحُ الصدورُ، وبها تعمُّ السعادةُ ويستقرُّ الأمنُ وتزدهرُ المجتمعاتُ.

المحبةُ التي تدفعُ الإنسانَ ذاتياً للعطاءِ عِوضَ الاستئثارِ، وللإيثارِ بدلَ الأنانيةِ، وللتسامحَ نفياً للتعصّبِ، وللانفتاحِ طلباً للرشدِ، والاحترامِ بدلَ التكبّر.

المحبةُ التي تترسخُ بها حاجةُ الكلِّ للكلِ، الكاشفةُ عن زيفِ مَقولاتِ التفرقةِ على أسسِ اختلافِ الدينِ واللونِ والعرقِ والطبقةِ واللسانِ.

هكذا أرادَ نوحٌ أنْ تكونَ الحياةُ بعد الطوفانِ، وهكذا أرادَ نبينا محمدٌ (ص) أنْ تكونَ الحياةُ بعد أحقابِ الجاهلية. إنَّ القَصَصَ القرآنيَ ليسَ تسليةً، وُضِعَ لنا لنستوحيَ منَ نماذجِه الإنسانيةِ مقاصدَها العليا، وخلَدَ ليرَسُمَ لنا ملامحَ الحياةِ الجديدةِ كلّما خبتْ معالمُها، ويضعَ خارطةَ البناءِ الذي يجبُ تشييدُهُ ليكونَ صالحاً لحياةِ الإنسانِ مُصانَ الكرامةِ، وعلى بعثِ الأمةِ من بعدِ موتِها، وغَرَقِها أحقابًا في مستنقعِ العصبياتِ الآسن.

مجتمعٌ يقامُ على أسسِ الحياةِ قادرٌ على صَدِّ دعواتِ البغيِ والتفريقِ التي تُصرُّ على تعطيلِ الحياةِ، وتأجيجِ الصراعاتِ، وتبديلِ القيمِ، ليستديمَ البغيُ.

فيِ أساطيرِ القدماءِ يستحثُنا أسلافُنا بحكمتِهم للقيامِ بعد السقوطِ متمثلينَ بطائرِ الِفينيقِ، إذ ينفضُ عن نفِسه بنفسه رمادَ الدمارَ إيذاناً باستئنافِ حياةٍ جديدةٍ، رسالةُ محبةِ الحياةِ التي يُرُسلها لنا الأجدادُ حكمةً عابرةً للزمانِ هي عينُهُ ما يوحي به اللهُ لنا كلَّ يومٍ بشروقِ الشمسِ بعدَ غروبِها، ما أنْ تحلُّ الظلمةُ حتى يعقُبها فجرٌ جديدٌ يهمِسُ في مسامعِ أرواحِنا بالقيامِ واستئنافِ الحياةِ بأملٍ أكبرَ وبإرادةٍ أقوى.

ما قبل الطوفانِ كان “الْخُلَطَاءُ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ“، بهذا البغيِ سادَ ليلُ غربةِ الإنسانِ عنْ إنسانيتِه، وبأفولِ نجومِ القيمِ الهاديةِ في هذا الليلِ لنْ نرِثَ إلا مزيداً مِنَ العَتْمةِ والتخبّطِ، ولا سبيلَ للخروجِ منْ هذا الليلِ إلا بإشراقِ شمسِ التغييرِ التي تصوغُ إنسانًا يأبى أنْ يكونَ مِن “الخلطاء الباغين”، بل مِن “القلةِ المستثناة” في قوله سبحانه “إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ”. 

هذه القلةُ تُترجمُ إيمانَها بالله على أنه إيمانٌ بكرامةِ مخلوقِه الإنسانِ، مهما كانَ اختلافُه وتمايُزه، إنّها تؤمنُ بوحدةِ مصيرِ الإنسانيةِ، وتؤمنُ أنْ لا سبيلَ لتحقيقِ ما تؤمنُ به إلا بعملٍ صالحٍ دائمِ، ولا عملَ صالِح بغيرِ مِحْضِ المحبةِ للإنسانِ والتسامحِ معهَ والعطاءِ له والعيشِ المشتركِ معه، من أجل استدامةِ الحياةِ الكريمةِ.

إزاءَ هذا النداءِ القرآنيِ البشيرِ النذيرِ، نجدُ أنفسَنا أمامَ خاتمتين:

  • أن نكونَ كالخلطاءِ الذي بغى بعضُهم على بعضٍ، فكانتْ عاقبتُهم أن يَشقوا وتبيدَ حضاراتُهم.

أو

  • أنْ نكونَ من القلةِ الساعيةِ لاستئنافِ ما تمَّ تعطيلُه من الحياةِ الإنسانيةِ، لنرسُمَ ملامحَ حضارتِنِا الجديدةِ.

نريدُ أن نكونَ وإياكم مَن القلةِ التي تؤُثر “استئنافَ الحياةِ” وبناءَها،

نريد أنْ نكونَ وإياكم ممّن يَسقُونَ بُذورَ العملِ الصالحِ بماءِ المحبةِ،

لأنّ طريقَ “استئنافِ الحياةِ” صعبٌ مستصعبٌ لا يحتملُه إلا من يُقرّرُ ويسعى لوضعِ جوهرهِ الإنسانيِ موضعَ التحقيقِ والتنفيذِ.

نبدأُ اليومَ موسم استئناف الحياةِ، إيماناً منا بأنّ خالقَ الحياةِ لمْ يأذنْ لأحدٍ بإماتِتِها، لأنّه وحدَهُ “خالقُ الموتِ والحياة“، وأنَّ للأمةِ طائرُ فينيقِها الذي حانَ أوانُ انبعاثِه مِن بين أنقاضِ الرمادِ، مهما علا صوتُ البغي واشتدّت مِحَنُ الأمة وتوالت فصولُها، فكان جديدُها صفقةَ قرنِ الشيطان، لبيعِ وطنٍ بأهلِه استحلالاً لِمغتصبيه!

التغييرُ في الأرض كلّ الأرضِ يبدأ في النفسِ، بكِ وبي، وبِها وبِه.. أفرادًا كنا أو جماعاتٍ.

فـ “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”..

والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

شارك بتعليقك

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني.