الأحداث التاريخيّة بعضها لا يبقى إلا لوقته وساعته، وبعضها يظلّ عصيّاً على النسيان والاندثار، بل قد يُصبح حدثًا فريدا لا توأم له ولا عقِب. فـ(النجاشي) بعدله وحكمته في الحكم والتشاور وتعاطي السياسة وإيوائه أناساً للتوطّن بمعيارٍ توطينيّ فريد، هل كان حدثاً يتيما لا مسبوق ولا ملحوق؟ أم هو حدثٌ نموذج يجدر بالتاريخ أن يُوجد أمثاله؟! حين اشتدّ العذاب والاضطهاد بأصحاب النبيّ (ص) في ديارهم بمكة، وأدركوا أن لا قدرة لهم على تحمّل البلاء المنكّل بهم، أشار عليهم رسول الرحمة (ص) بالهجرة إلى الحبشة، معلّلا تلك الوجهة بقوله (فإنَّ بها ملكاً لا يظلم عنده أحد حتى يجعل اللّه لهم فرجاً مما هم فيه). إنّ هذا الوصْف النبوي لهذا الملك يُوجب تحليل شخصيته لاستلهام سرّ المقولة فيه، واستحقاق كونه ظاهرة تاريخية، فمن إشارة النبي دخل جعفر ابن أبي طالب وقومه أرض الحبشة، ولحق بهم وفد من المشركين ليردّوهم إلى مكة تحت سطوتهم، أشاعوا عنهم أفظع صور التشويه، أفزعوا مملكة الحبشة بهم، وصوّروا للمجتمع الحبشي أنه قد دهمهم أخطر جماعة على دينهم، يقولون…
رغم أن الأزمات تؤزّم الإنسان فتُضيّق عليه وتربك حياته وقد تقلب عاليها سافلها إلاّ أنها لا تخلو من فوائد وربما فوائد جمّة لا يمكن أن نحوزها إلاّ من خلال وضع متأزّم بشرط أن نعرف كيف ندير هذه الأزمة لكي نتجاوزها بأكبر قدر ممكن من الاستفادة. إن ما حدث مؤخّراً بشأن الإساءة لرسول الأمة (ص) خلق وضعاً متأزّما للمسلمين كافّة – شعوباً وحكومات – ووحّدهم جميعاً على قضية واحدة وتلك حدّ ذاتها فائدة تدلّنا على أن لدينا – نحن المسلمين – من الثوابت المشتركة إذا ما اجتمعنا عليها ووظّفناها التوظيف الصحيح لأستطعنا أن نسمع صوتنا للعالم ونرغمه على احترامنا واحترام مشاعرنا ومقدّساتنا. هذه الأزمة وحّدت قرارات الحكومات العربية والإسلامية الممثلة في القمة الإسلامية الاستثنائية التي عقدت في مكة المكرمة، والمنظمات الحقوقية المختلفة والأفراد من رجال دين وحقوقيّن وغيرهم وذكّرتنا بأننا يمكننا أن نقوم قيامة رجل واحد إذا ما مُسّت مقدّساتنا المشتركة. من فوائد هذه الأزمة أنها بصّرتنا بمفهوم “حرية التعبير” التي يتحدّث عنها الغرب “المتمدّن” ومنافاتها لأدنى قواعد احترام الآخر والتعايش…