كان حمّال أميّ يعيش في إحدى الزقاق النائية يسترزق من عمله هذا، وفي يوم من الأيام وهو يتجوّل في الأسواق كعادته، أنزل حمله ليرتاح قليلا، فسمع صوتاً من مكان قريب، أم تنهى طفلها عن الاقتراب من سور البلكونة لئلا يسقط. وفي طرفة عين تزحلقت رجل الطفل وسقط من علو!! فصرخت الأم بأعلى صوتها، ووقف الناس متحيرين لا يعلمون ماذا يفعلون. صرخ الحمال وهو يتجه نحو الطفل: (احفظه يارب)، فتأخّر سقوطه إلى أن سقط في يده ليحمله ويسلّمه لأمه سالماً!! اختلف الناس الذين حضروا هذا المشهد في تفسيره، فمنهم من قال إنه ساحر، ومنهم من ظنّ أنه عبد صالح! وبينما كان الحمّال مشغولا عنهم، وضع حمله على ظهره ليواصل عمله، وقبل أن يغادرهم أجاب على أسئلتهم بكل هدوء: “لا لست ساحراً، ولست ولياً، أنا هو الحمّال ذي 56 عاماً الذي تعرفوني، لم أقم بشيء خارق، سوى أنني فيما مضى من عمري أطعت الله في كل ما أمرني به، وهذه المرة أنا طلبت من الله حاجة فاستجاب لي”. هذا التحليل الروحاني الممزوج…
لم يفق من ذهوله إلا وهو يتدحرج على الرصيف، جلس القرفصاء وسط الطريق، أسند رأسه على راحتيه، أطرق برأسه متفكراً يخاطب نفسه: ماذا جنيت؟ ألأني رفضت أن أقوم من مقعدي لرجل أبيض ضُربت ورُكلت وأُهنت وأُلقيت من الحافلة كما يلقى كيس القمامة وسط صرخات إعجاب البيض لمن فعل بي هذا؟!! جرّ أنّة طويلة عندما زفرها كاد أن يحرق لهبها وجهه، وتساءل: أهكذا تكون زفرات المقهور؟!! أخذ شريط الذكريات يطوف في مخيلته، تذكر استعمار الإنجليز لبلاده، واحتقارهم لشعبه، لاحت أمام ناظريه معاناة الهنود وهم يشيدون مدنية وحضارة بريطانيا بأجسادهم النحيلة، كيف خاضت بهم حروباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وعندما ظفروا في الحربين العالميتين كان الغنم لبريطانيا والغرم على الهنود. أحسّ بلسع الدموع على وجنتيه، فخالها شفرات حادّة تحفر أخاديد لها في خديه، رفع يده ليمسحها بكمه، ولكنَّ الدموع لم تكف عن الانحدار، استحى من نفسه أن يرى نفسه باكياً كطفل صغير، أو امرأة مقهورة، وقال: أتبكي الرجال يا غاندي؟!!! تفاجأ بجواب غريب انطلق من أعماق العقل والوجدان، نعم تبكي…
لمْ يُخلقِ الإنسانُ لِيشهَقَ ويزفِرَ بلْ ليحيا الحياةَ بمعانيها وبحَملٍ حقيقيٍ لمسؤولياتِها، ومِنَ العبَثِ أنْ يُحاولَ أحدُنا أنْ يُقنعَ نفسَه بغيرِ ذلكَ أوْ يسمحَ للآخرِينَ بأن يفعلوا به ذلكَ فيُستغفلُ ويُسترقُّ، بلِ الواجبُ أنْ ننطلقَ بكلِّ ما حبتْنا به الحياةُ. لِهذا، علينا أنْ نتساءلَ هل نحيا الحياةَ التي ينبغي؟ وهلْ لم يكنْ ولنْ يكونَ أفضلَ ممّا كان؟ بلْ هلْ بدأتِ الحياةُ لدينا؟ الحياةُ قوّةٌ، وبحثٌ دائمٌ عنْ مسؤوليةٍ، وتنفيذٌ جادّ لاستخلافِنا الإلهي، الحياةُ ليستْ ارتخاءً أو مساومةً، إنّها مفروضةٌ على الإنسانِ وليست اختيارًا، بهدفِ أنْ يعيشَها بما تحمِلُ الكلمةُ مِنْ معنى، فالحياةُ بطبيعتِها ليستْ ميسّرةً سهلةً، بلْ تتطلّبُ عملاً وتحمّلاً وفرحاً وحُزناً، ولو كانتْ سهلةً ميسّرةً لَما كانَ الصبرُ فيها أحدَ أبوابِ الجنةِ، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على ذلك كثيرةٌ وكذلك الآياتُ التي تحُثُّ على القَبولِ الإيجابي للتكليفِ الإلهيِ والانغماسِ في أسبابِ البناءِ المسبوقةِ بالتعلّمِ وبناءِ الخبراتِ. إذنْ فالحياةُ عمليّةُ تفتُّحٍ وازدهارٍ، أيْ أخذٌ بحقٍّ وعَطاءٌ بحقٍّ، إذ الهدفُ أنْ تُستثمرَ الحياةُ في التفتّحِ بواسطةِ الأخذِ بالتَعلّمِ واكتسابِ المعارفِ الماديةِ، وتراكمِها…
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًا مُبِينًا) (الإسراء:53) لغةً؛ نَزَغَ (النون والزاء والغين) كلمةٌ تدلُّ على إفسادٍ بين اثنين، ونَزَغَ بينَ القوم: أفسَدَ ذاتَ بَيْنِهم، أو أن يُلْقِي في قلب المرء ما يُفْسِدُه على أَصحابه، والنَّزْغُ شبه الوَخْز والطعْن. يبين الله سبحانه في هذه الآية بأنّ مصدر الإفساد والقطيعة بين الإنسان وأخيه الإنسان هو الشيطان لا غير، وأنّه مهما أساء الإنسان لأخيه إلا أنّ الشيطان هو العدو الفعلي والحقيقي والتاريخي وليس الإنسان، فهي دعوة للإنسان بأن يعرف عدوّه الحقيقي وينشغل بتحصين نفسه منه، وأن لا ينشغل بسراب العداوات الوهمية المصطنعة التي تشغله عن عدوّه الحقيقي. لذلك جعل الله لنا (.. فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ)، فقد عرف يوسف (ع) عدوّه الحقيقي منذ الرؤية التي رآها في المنام إلى أن تمكّن في “مصر”، فلم يشغل نفسه في عداوات شخصية مع أحد حتّى مع أكثر المسيئين إليه وهم أخوته، فبعد رحلة معاناة طويلة ومريرة (40 عاماً) بسبب سلوك وأفعال الأخوة، وبعد الضرب والرمي…
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201) تتحدث الآيات القرآنية الكريمة عمومًا عن أفعال شهيرة يقوم بها الشيطان عبر منظومته المتعددة.. تقود إلى الغواية والفتنة والإضلال عن طريق الحق والزيغ عنه، منظومة الشيطان تبث موجات مؤثّرة فقط على المستوى الغزائزي، تحرّك شهوات النفس ونزعاتها وأهوائها، كالخوف والجشع والعجلة والغرور والجزع وغيرها، فتطفح ويعلو أوارها، وتأخذ صاحبها إلى مسالك الشرّ والنزغ، والتوغّل في السوء، والنأي عن الخير والمعروف. مسئولية الإنسان أن يوفّر لنفسه الحصانة، ويضع المرشحات، ويثبّت القواعد، التي تحميه من الإنجرار إلى شراك الشيطان، والاستجابة لدعواته، فإن فعل فسيكون من “الذين اتقوا”، أي الحريصين عملا على وقاية أنفسهم من الشرور، بتسلّحهم بالسلاح الفتّاك لمحاربة المسّ الشيطاني وهي: التقوى، والتي تقود إلى التذكر! والتذكّر هو قدرة الإنسان أن يكون حاضرًا في الموقف، واعيًا بتفاصيله، الأمر الذي يمكّنه من السيطرة على شرور النفس، ثم استدعاء العقل، واستحضار التجارب المناسبة للحظته ليعمل بها، فالذكر مرتبط بالعقل والاتزان والسمو، بعكس النسيان الذي يعبّر عن سيطرة للنفس. ولكن أداء…
“وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” [مريم : 39] لم تنفك الآيات القرآنية تؤكد أنّ الرسل إنّما جاؤوا مبشّرين ومنذرين، ويأتي ضمن كثيرٍ مما أنْذَروا به الناس “يوم الحسرة” وهو بحسبِ التفسير يوم القيامة. والمفهوم من الآية أنّه اليوم المحدّد الذي يأتي بانقضاء الأعمال وانتهاء مهلَتِها، ويكون الإنسان قبله غافلاً عن هذا الأجل ومهمِلاً الاستعداد له! فلكلّ مهلةٍ حد، ثم تنقضي الأمور، وتُحسَم النهايات ولا ينفع الندم بعدها، وهذا ما سيحدث يوم القيامة إذ ستُغلق الملفات ويصير مستحيلاً بعدها العودة لإصلاح العمل أو إعادة التزوّد. لكن هل من الممكن أن يمر “يوم حسرة” في حياة أيٍّ منا قبل مماته؟! هل من الممكن أن يكون يوم الحسرة مثلاً هو: اليوم الذي تفقد فيه أحد أحبتك أو فرداً من أهلك وقد كنت مقصّراً وغافلاً عن أداء حقه، فتنغلق أمامك فرصة تقوية هذه العلاقة أو إصلاحها! أو اليوم الذي تخسرُ فيه كمال صحتك فتفقدُ حاسةً من حواسك أو عضواً من جسدك فيحول ذلك دون القيام بالكثيرِ من…
“وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ، … ، مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ” النساء 78-79 يبدو أنّ هناك تناقضاً بين قوله تعالى: “قل كلّ من عند الله”، و”ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك”، ولحلّ هذا الإشكال علينا أن نقرأ الآية في سياقها وننتبه لدقّة الصياغة القرآنية لكي لا يفوتنا الفرق الدقيق بين لفظي “من عند الله” و”من الله“، ومن هو القائل في كلتا الحالتين. تبدأ الآية الأولى بخطاب موجّه إلى ضعاف الإيمان، وتصف حالهم، حيث أنّهم كانوا يذهبون للحرب مع الرسول (ص) لأجل مصلحة ومنفعة شخصية، فهؤلاء إذا أُعطوا رضوا وقالوا هذه الحسنة من عند الله، بينما إذا هُزموا أو خسروا فإنهم يلومون النبي(ص) ويقولون له أنّ ما أصابهم من سوء وشرّ هو من عند النبي(ص)!! وهذا غير صحيح، فيرد عليهم مصحّحا لمفاهيمهم، ومقوما لنفوسهم بقوله: أنّ كلّ شيء (من عند) الله، بمعنى…
“قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” (الأعرف:12) في الحوار الدائر بين “الرب” والملائكة ودعوته إياهم للسجود لآدم بعد إعادة تخليقه، كان وجه اعتراض إبليس على السجود لآدم هو “الخيريّة” أو “الأفضليّة” للعنصر المخلوق منه كليهما! فهو الذي حدّد أنّ النار أفضل وأرقى من عنصر التراب أو الطين، مع أنّ “خلقته من نار” و”خلقة آدم من طين” ليستمن فعله هو، فكيف حدّد أنّ مادّته خيرٌ من مادةِ الآخر؟ لقد أراد بمنطقِهِ الأعوج أن يفوّت دور الباطن وقيمته، ويرجّح الظاهر، مع أنّ التمايز الحقيقي لا يكون إلا في المساحات التي يملك فيها كلٌّ منهما خياراته وإرادته، ففيها وحدها يصنع أيّ منهما مقامه، ويحدّد مستوى رقيّه، وأفضليّته، لا بأيِّ شيءٍ آخر.هذه المسألة هي نواة نظرية التمييز العنصري! وبذلك يكون إبليس هو مؤسّس ورائد هذه النظرية بلا منازع! علماً بأن الملائكة بناءً على قياساته، أفضل منه، فهي مخلوقةٌ من “نور” وهو عنصرٌ أكثر رقيّاً من النار! ولكنها لم تعترض على السجود لآدم المخلوق من “الطين”. وامتد أثرُ هذا التمييز “العنصري”…
“أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ” –العنكبوت 2 من يتخذ الله سبيلاً، ويدرك الغاية من وجوده، ويوجّه بوصلته باتجاه ما ينفع الإنسانية، ويختار أن يقرن حياته برسالةٍ عنوانها الخير والصلاح والمحبة، فإنّ الشوك حتماً سيلاقيه! فما أصعبه دربَ الصالحين، وما أوجعه طريق الحق، فكلنا يعلم بقلة سالكيه، ونعلم كذلك من هم الذين بذلوا مهجهم في هذا الطريق وأين صاروا وكيف حققوا مبتغاهم. إنّنا مأخوذون بالفتن، لا بد أن يُختبر إيماننا، هي سنَة الله في خلقه، تنتظرنا مراتب ودرجات متاحة فقط لمن يستحقها، والحكمة تقتضي أنّ كل من يتحمّل مسؤولية تغيير أو إصلاح، فإنّه سيواجه الصعاب والمحن، وهنا تبدأ معركته الحقيقية، فصراع الخير والشر والحق والباطل، يبدأ من الداخل أي من النفس! صراع يجرّ صاحبه لخوض معركة كرّ وفرّ، شطبٍ وإضافة، أبطالها النفس الأمّارة بالسوء مقابل الضمير الحي الذي ما إن تنساه حتى يبدأ بالاضمحلال وصولاً لمرحلة العطب! الفتن دائمة، لن تتوقف أبداً، لأنّ المراتب والدرجات كذلك لا حدّ لها، ولا مفرّ لنا إلا بمواجهتها، فإمّا الانجرار…