يخدعك جمال البلاد إذا نظرت إليها من أعلى، جبال شامخة، وأودية منحدرة، وأشجار باسقة، أو صحارى نقية، أو بيوت متجاورة، وشوارع كالشرايين، هكذا تبدو البلدان ولكن من فوق فقط، فما أن تدخلها حتى يصدمك الواقع، فالجبال الشاهقة هي رعناء خشنة في آن، والأودية السحيقة هي جروف على حافة الانهيار أيضا، والبيوت المتجاورة قد تكون متهالكة البناء، والشوارع أزقة تملؤها القمامة، ويطنطن في أنحائها الذباب، ويتسكع على جوانبها العجائز والعاطلون، والأشجار الخضراء ما هي إلا أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، والجو حار أو رطب أو قارس، والحشائش شوك، فما تراه عن بعد غالبا ما يكون بعيدا عما تلمسه عن قرب، فالشيطان قابع في التفاصيل. الناس هم كذلك مثلها، فقد تراهم مجتمعين في المجالس متجاورين يتجاذبون أطراف الحديث، فتظن أن قلوبهم متجاورة كأبدانهم، ولكن ما أن تقترب منهم أكثر حتى تكتشف أن بين الواحد منهم والآخر بونا شاسعا، ربما من الحسد أو البغضاء أو التنافس أو الاستثقال أو التعيير، ولو فتشت ما بين أسنانهم بمنظار الوعي لوجدت آثار لحومهم بينها…
يحكى أنّ جاراً لنصر الدين أتى بطبق من الحلوى تفوح منه رائحة شهّية، استلمت زوجته الطبق ووضعته في مكان آمن وأغلقت الباب عليه، ولم تنجح محاولات نصر الدين لإقناعها بأن يأكلوا الحلوى في تلك الليلة وبقيت على رأيها بأنّ أكله غداً أفضل، وفي منتصف الليل، أيقظ نصر الدين زوجته وأخبرها بأنّ لديه سرّا يريد مشاركتها إياه، فاعتقدت بأنّه سيكشف لها عن مال مكنوز أو ثروة، فاستيقظت وكلّها شوق، فقال لها بأنّه لن يقول لها السرّ ما لم تأتِ بالحلوى أوّلاً، فهرعت وأتت بها، ولمّا أكل، سألته عن السّر، فقال لها بأنّ السّر هو أنّنا لا يجب أن ننام ما دام في البيت حلوى لم نتذوّقها. هناك عوامل مشتركة بين النوم والموت يستطيع الإنسان أن يستثمرها لمراجعة حياته بشكل مفصلّي ومنتظم ويتعرّف على حقيقة نفسه وأعماله، فمراجعة الإنسان ليومه قبل أن ينام، والبحث عن المتشابهات بين يومه والأيام الأخرى، يعطيه صورة عن الهيئة التي قد ينهي عمره عليها ما لم يغيّر ذلك بوعي، فإن راجع يومه ورأى فيه دمعة ساهم…
ليس كل بهرجة مهرجانية وأجواء احتفالية دليل فرح حقيقيّ، ولا كلّ منظر مؤلم أو حوادث مأساوية تستدعي حزناً أكيداً، فمشاعر الفرح والحزن نسبية يحدّدها دواعيها وأسبابها وأحياناً نتائجها المتوقَّعَة للشاهد البصير، فربّ حادثتين متشابهتين في ظاهرهما تبعث إحداهما فرحاً في النفس والأخرى حزناً، ربما لتباين في التفاصيل أو اختلاف في الزاوية التي يُنظر منها وإليها، وكم من حدث يبدو مؤلماً في آنه ولكنه يحمل بذور أمل في باطنه؛ فمن يستطيع أن يرى الصورة الأكبر لما يحيط بالحدث من وقائع، ويغوص أعمق فيما دون السطح سيقرأ الحدث وما وراءه فيفرح على ما يُحزِن الآخرين ويحزن على ما يُفرِحهم. من مشاهد الألم التي قد يضجّ منها البعض بينما يستبشر بها آخرون ما يحدث اليوم في تونس الشقيقة، والشرارة التي أشعلت انتفاضة الجياع حين صادرت السلطات المحلّية عربة يد يضع عليها شاب (جامعي يحمل شهادة عليا) بضاعته من الخضروات والغلال ليبيعها ويعتاش منها (!) فما كان منه إلاّ أن عبّر عن احتجاجه على الظلم الممارس ضدّه بحرق نفسه، فقضى بعد عدّة أيام متأثراً…
يُنقل أنّ الملا نصر الدين خوجة الشهير (بجحا الأتراك)، وكان أحد وزراء ملوك عصره، رأى ذات يوم في قصر الملك صقرا، ولم يكن جحا قد رأى صقرا قبل ذلك، فظنه حمامة، ولما رأى المنقار المعقوف ومخالبه الطويلة، أحضر مقصا وقلّم مخالب الصقر ومنقاره، ثم قال مغتبطا :الآن أصبحت طائرا جميلا..لابدّ أنّ الملك كان يهمل العناية بك! الظاهر من هذا الخيال القصصي أنه لتسلية المتسامرين ضمن نوادر جحا المسلية، إلا أنه يحمل معنى أعمق من التسلية، فبالتأمل يُعدّ مفتاحا لمقولة فلسفية، ومفادها أنّ الحقيقة شئ ومقدار علمنا بها شئ آخر، وبتعبير آخر أنّ تعييننا للحقيقة وتسميتها ينبع من وجهة نظرنا ومن زاوية فهمنا للأمور لا من الحقيقة ذاتها، أو بالمصطلح الفلسفي: أنّ الحقيقة نسبية في مقابل القول الآخر بأنّ الحقيقة مطلقة، وعلى هذا المنوال يحدث أنّ أفرادا لا يرون الجوهرة الثمينة إلا فحمة لا يُؤبه بها فيزدرونها، وهكذا تنحدر قيمة بعض الحقائق الناصعة، بل يتحول هذا التقييم إلى مصيبة عظيمة لو لم تقتصر أفكار الجاهل على نفسه، وذلك إن تعدتها بقدرة…
في إحدى البحيرات، كانت الضفادع حزينة لأنّ الحيّات تأكلها، فشكت حالها لطيور اللقلق التي كانت تعيش معها في تلك البحيرة، فأكلت طيور اللقلق الحيّات وفرحت الضفادع، وبعد فترة قصيرة، جاعت طيور اللقلق فأخذت تأكل الضفادع، فانقسمت الضفادع إلى قسمين لكلّ منهما وجهة نظر مختلفة، القسم الأول تقبّل طيور اللقلق على ما هي عليه وأراد التعايش معها، والقسم الثاني أراد رجوع الحيّات، فرجعت الحيّات، وشاركت طيور اللقلق أكل الضفادع. الآن اقتنعت الضفادع بأنها خُلقت لكي تُؤكل، ولكنّها كانت تواجه مشكلة جوهرية واحدة، فهي لم تكن تعرف إذا ما كانت ينبغي أن تؤكل من قِبل أعدائها أم أصدقائها؟ يكوّن كلّ منا معتقداته عن سبب وجوده وماهيته منذ الصغر وتبقى في تغيير طفيف حتى نواجه الأحداث التي تكون بالنسبة لنا مهمّة ومفصلية وقد تكون صادمة أيضاً، فتهزّ الصورة المخزّنة بداخلنا عن أنفسنا وعن الحياة بصورة عامّة ودورنا فيها، فسواء كانت النتيجة التي نستقيها من تلك الأحداث إيجابيّة أو سلبيّة، فإنّ ذلك قد يؤثّر على تلك الصورة بما فيها هويّتنا وقدراتنا ومن نكون وربّما…
أقام أحد المعارض مسابقةً للرسم لاختيار أفضل الرسومات التي تعبّر عن الشعور بالسلام وترمز له، وشارك فيه العديد من الرسّامين من مختلف الأعمار، وقدّموا أعمالاً متنوّعة تمحورت أكثرها حول الشعور بالسلام حين يعمّ في البيئة المعاشة، كهدوء بجْعٍ على بحيرة، وبستان ربيعيّ مزدهر، وعلاقة مُحبّين في جوّ هادىء، وطفل نائم بعمق، وأناس مبتسمين يتسامرون، وغيرها من التعابير التي تعكس أيضاً الهدوء والطمأنينة في الأجواء، ومع جمال تلك الصور، إلا أنّ الرسمتيْن الفائزتيْن كانتا ذات طابع مختلف، فالأولى صورّت عاصفة شديدة ودمارا شامل في الأجواء، ووسط كلّ ذلك، هناك شجرة عليها عشّ يرقد فيه طائر على بيضه بهدوء، والرسمة الثانية كانت لطوفان وأمطار غزيرة عصفت بمدينة وتسبّبت في عزلها وقطع الكهرباء والإمدادات عنها، ومن مدفأة أحد البيوت البعيدة، يخرج بخار يدلّ على أنّ هناك وجبةً ساخنة في حال الإعداد. السلام ضرورة للحياة المدنيّة والإنسانيّة السويّة، وترتفع مستوياته بالتآلف التي تعيش به الدول والمجتمعات، وسيادة القانون والقيم والأخلاق فيها، وتقلّ بالحروب والخلافات والجهل والفقر وتبعاته، وهو يتأثّر بالظروف الآنيّة والمستقبليّة والمخاوف المحيطة،…
جُرّد من لقب البطولة الذي ناله بجدارة، وعندما استبدل اسمه الذي كان يعتبره عنوان عبوديته باسم يمنحه الشعور بالعزّة والكرامة والحريّة، أبوا إلاّ أن ينادوه باسمه القديم لأكثر من عشر سنوات إمعاناً في الإساءة إليه وتذكيره بأيام الذل والاستعباد، ثم حُكم عليه بالسجن بتهمة اللاوطنية، كلّ هذا حدث لأنه اتّخذ قراراً شجاعاً برفضه الذهاب للقتال في فيتنام معلّلاً رفضه بمقولته المنطقيّة والجريئة: “لماذا يطلبون منّي أن أسافر أكثر من عشرة آلاف ميل تاركاً وطني لأجل أن ألقي القنابل الحارقة وأطلق الرصاص على الأبرياء في فيتنام، بينما ما يسمى بالزنوج هنا يعاملون كالكلاب ويُستنكر عليهم الحصول على أدنى حقوقهم الإنسانية، لا .. لن أسافر لأساهم في قتل وحرق أمة فقيرة أخرى لأجل أن تستمر هيمنة هؤلاء البيض أسياد العبيد! إن أعداءنا الحقيقيين يعيشون هنا، فأنا لن أجلب العار لديني، ولا لشعبي، بأن أجعل من نفسي أداة لاستعباد الذين يحاربون من أجل العدالة والحرية والمساواة، ولا أخاف أن أخسر شيئاً إذا تمسكت بمبادئي، سوى أنني سأُسجن، لم يأتوا بجديد، فنحن في سجن…
كان شابّاً شديد الشكوى من ألم الرجليْن والقدميْن، كلّما مشى اشتكى من طول الطريق وصعوبة المشي، وما إن تخطو قدماه عدّة خطوات حتى يجلس ليستريح، وهو دائم التذمّر من الجروح التي تصيب قدميه، في إحدى المرّات جلس على حافة الطريق بعد ما أنهكه السير، فخلع حذاءه الممزّق، ودلّك رجليه، ثم حاول أن يلبسه بصعوبة، فسأله صديقه: طالما وددتُ أن أسألك، لماذا لا تغيّر حذاءك الضيّق الممزّق بآخر يتناسب مع حجم رجليك؟ فقال له بأنّه لا يستطيع أن يبدّل هذا الحذاء لأنّه عزيزٌ عليه ويعني له الكثير، فهو حذاء اشتراه له أبوه لامتحانه الأخير الذي نجح فيه قبل أن يتوفّى، فهو يعتقد أنّ هذا الحذاء يجلب له الحظ في حياته. إذا تأمّلنا في أعماقنا قد نرى أنّ هذه القصّة تتكرّر بداخلنا بأشكال مختلفة، فقد تكون معتقداتٌ أو وجهات نظر وتعصّبات قديمة نحتفظ بها فقط لأنّها كانت تعني لنا شيئا في السابق، أو لأنّنا أخذنا قرارات بناء عليها، أو لأنّنا دافعنا عنها دفاعاً مستميتاً يوماً ما، والآن توسّعت مداركنا وعرفنا بأنّنا نستطيع…
أعجب كثيراً من الجمود الذي تعاني منه الأمة الإسلامية – والعربية على وجه الخصوص – في الشأن السياسي والاجتماعي والعقائدي والفكري والثقافي فنقرأ كتباً لمفكّرين ومصلحين، ونسمع أحياناً كلمات أو محاضرات لقيادات دينية أو سياسية تحلّل حال الأمة مضى على بعضها ربع قرن، أو نصف قرن، بل وقرن من الزمان وكأنها كُتبت بالأمس القريب! ما يعني أننا في تردٍّ دائم وإنْ أسميته تجاوزاً (جموداً). فتعجب وأنت تقرأ كتاب الكواكبي طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد وهو يصف بكل دقة داء الأمة ودوائها قبل مئة عام وكأنها وصفة علاجية لأبناء الأمة اليوم، وتدهش من أطروحات مالك بن نبي في كتبه التي يعالج فيها مشكلات الحضارة ويحثّ الأمة على النهوض، وتستغرب حين تسمع الشهيد مطهّري وهو يصرخ بعلو صوته، أو تقرأ له معاناته لتصحيح العقائد الفاسدة التي نالت من الفكر الإسلامي ومعالجته الدائمة للممارسات الخاطئة وبالأخصّ فيما له علاقة بالنهضة الحسينية (التي هي حدث ذكرى هذه الأيّام)، أضف إلى ذلك النقد اللاذع لاستحمار الشعوب من قبل رجال الدين المتخادنين مع السلطة السياسية المستبدّة في…
سقط رجل في حفرة على جانب الطريق ولم يستطع أن يخرج منها، فكان يتألّم ويطلب المساعدة من الناس، فمرّ عليه أفراد مختلفون كلّ لبّى نداءه بشكل متفاوت، فرجل يَدّعي التديّن مرّ إلى جانبه وطلب منه أن يفكّر بالذنب الذي اقترفه والذي كان سقوطه عقاباً عليه، وعالِم فيزياء ناقش معه حيرته كيف أنّه سقط والمقاييس والأحجام تجعل من الصعب عليه أن يسقط في الحفرة بهذا الشكل، وصحفي قام بعمل لقاء معه عن الحادث علّه ينقل معاناته، وطبيب أعطاه حبّتين مهدّئتين ليساعده في تسكين ألمه، ومعالج نفسي أرشده للتفكير بالسبب الذي جعله لا ينتبه للحفرة ويقع فيها، وأعطاه بعض النصائح لما عليه أن يفعل ليتفادى ذلك في المستقبل. وبينما هو كذلك، مرّ رجل بسيط ووقف على الحفرة ومدّ له يده، فمسكها وأخرجه منها. إنّ كلّ الأفراد في القصّة الرمزية السابقة يُفترض بهم النيّة الحسنة ومحاولة المساعدة ولكن لا أحد منهم استطاع المساعدة سوى الأخير، مع أنّهم جميعاً انتبهوا لحاجته للمساعدة وأعطوه أولويّة وتوقفوا لأجله وتفاعلوا مع ندائه، فجزءٌ من مشاكلنا تكمن حين…